الاستدامة البيئية للأحياء السكنية (2 من 2)
أشرت في المقال السابق (الاستدامة البيئية1/2) إلى الطبيعة الصحراوية الهشَّة للمملكة وكونها ذات موارد محدودة، وأوضحت الحاجة إلى العمل على إيجاد التوازن عند تصميم الأحياء السكنية، بين ما توفره البيئة من موارد وإمكانات، وبين احتياجات السكان وأنشطتهم الحياتية؛ خصوصاً أن غالبية سكان المملكة أصبحوا من سكان الحواضر، وهو ما أدى إلى تغير نمط حياتهم ليعتمدوا في تنقلاتهم اليومية على السيارات، وليصبحوا أكثر استهلاكية للطاقة الكهربائية والمياه، ولينتجوا كميات أكبر من النفايات والمخلفات وما يصاحبها من تلوث النمو الإسكاني الكبير والمتسارع في المدن السعودية، مع نقص المرافق والبنية التحتية اللازمة لمعالجة النفيات والمخلفات والتخلص منها؛ يؤدي إلى ظهور التلوث البيئي والإخلال بالتوازن الأيكولوجي، وهو ما يتسبب في الإضرار بحياة الإنسان وغيره من الكائنات، وقد يسبب أيضاً تلفاً للمباني والمنشآت، واضطراباً في الظروف المعيشية بوجه عام.
وتُعدُّ الملوثات الناتجة عن حركة السيارات الأكثر تأثيراً في تلوث الهواء في الأحياء السكنية. وتحتم التأثيرات السلبية والخطيرة لتلوث الهواء إعادة النظر في طرائق تصميم الأحياء وتخطيطها، وتجنب النماذج العمرانية التي تشجع على استخدام السيارات، وتبنِّي النماذج التي تشجع السكان على المشي، ويستدعي هذا توفير متطلبات السكان اليومية من مرافق وخدمات ضمن مسافة مشي آمنة ومقبولة جسمياً ونفسياً. إن مثل هذه المعالجات التصميمية سيكون لها كثير من المردودات الإيجابية، فسيتميز داخل الأحياء السكنية بانخفاض مستوى تلوث الهواء ومستوى الضجيج الصادر عن الحركة المرورية. كما يُعدُّ الغبار أيضاً من ملوثات الهواء في أحياء المناطق الصحراوية، حيث تؤثر العواصف الترابية على الصحة العامة للسكان؛ فنسبة الأمراض الحادة للجهاز التنفسي تزداد مع هبوب الزوابع الترابية؛ لذا يتعين العناية بالتشجير، والتوسع في إنشاء الحدائق، وإقامة مصدات الرياح، وتشجير جوانب الطرق؛ فالأشجار تضعف شدة الرياح وترشحها من الأتربة العالقة بها.
ولا تعد زيادة استهلاك المياه هدراً لمصدر الحياة الرئيس فقط، ولكنها تتسبب أيضاً في إنتاج كميات أكبر من الصرف الصحي التي يلزم إما تدويرها أو معالجتها والتخلص منها للحفاظ على البيئة من التلوث. وبما أن نظام الصرف الصحي لا يتوافر في جميع الأحياء السكنية؛ فإن بدائل الصرف الصحي الأخرى (مثل: نظام البيارات) تعد البديل الأكثر انتشاراً. ولكن ما تتسبب فيه من ارتفاع منسوب المياه الأرضية يصبح مشكلة بيئية وصحية، حيث تنتشر ظاهرة طفح المياه في شوارع الأحياء، كما تحدث مشكلات هندسية واقتصادية عديدة، فتتضرر الطرقُ والمرافق العامة، وتهبط المباني وتظهر فيها التشققات، ويحدث التآكل في الخرسانة وحديد التسليح، إلى جانب تسرب المياه إلى أقبية بعض المساكن، أو تلوث خزانات مياه الشرب الأرضية. إن العناية بترشيد استهلاك المياه وإعادة تدوير استخدامها سيسهم في تخفيف هذه المشكلة بشكل إيجابي.
ويظهر التلوث في الأحياء السكنية كذلك بسبب القصور في عملية جمع النفايات أو انعدامها؛ فحجم النفايات المنزلية والمخلفات التي تنجم عن حياتنا المعاصرة ازداد بشكل كبير نتيجة لأنماط الاستهلاك المتزايدة، ولأن معظم محتوياتها من المواد العضوية الرطبة أو المبللة سريعة التميع والتحلل والتعفن؛ فهي من أخصب مزارع نمو البكتريا، والمصدر الأول لانتشار الروائح الكريهة، وعامل مساهم في توالد الحشرات وتفشي الأمراض الوبائية واستفحال أمر القوارض، وذات أثر لا يستهان به في تلوث البيئة. ويزداد الأمر سوءاً في حالة بقاء هذا النوع من النفايات المنزلية فترة طويلة في مكان توالدها؛ خاصة في الأجواء الحارة الرطبة. ويُعدُّ تدوير النفايات من أفضل الأساليب للتخلص من النفايات، وله بُعْدان؛ الأول: اقتصادي يسهم في ترشيد استخدام الموارد الطبيعية والمحافظة عليها، والثاني: بيئي يحافظ على البيئة دون الإضرار بها. ويلزم لنجاح عملية تدوير النفايات اقتصادياً مشاركةُ السكان في عملية فرزها وجمعها؛ لذا يتعين - عند تخطيط الأحياء السكنية - توفيرُ أماكن مصممة ومجهزة تتناسب مع وضع حاويات للمخلفات المفرزة بشكل يشجع السكان على المشي إليها واستخدامها، ويسهل على الجهات أو الشركات المتخصصة عملية الجمع.