الاستثمار الباقي

منذ سنوات والكل يخسر في سوق الأسهم؛ لا أعرف أحدا حقق أرباحا بل الكل يتمنى لو يرجع له رأسماله فقط ويهرب منه بخفي حنين. أنا أيضا خسرت فيه. ولكن الخسائر كثيرة ومتنوعة. وخسارتي الأكبر حدثت أخيرا عندما توفيت والدة أحد أصدقائي. امرأة - ليست كبيرة في السن - كنت قد ساعدت وبجهد بسيط في علاجها في غسيل كليتيها. وكان صديقي، كل ما شاهدته، يقول لي: والله إن الوالدة تدعو لك دعاء لم نسمعها تدعو به لنا نحن أبناءها. توفيت تلك المرأة - رحمها الله - وخسرت دعاءها. تذكرت تلك الخسارة أخيرا عندما تحدث الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز بمرارة عن معاناة مرضى الفشل الكلوي. كان طيف تلك المرأة بين عيني وهو يتحدث عن معاناة مريض يشحذ نفقة علاجه، أو عن مريض رماه أهله في غرفة الطوارئ رجاء معالجته بعد أن ضاقت بهم الأرض. معاناة تدمع العين، والمؤلم فيها أننا بتبرع ضئيل نستطيع أن نساعد الكثير.
إن أخطر ما تمر به الجمعيات الخيرية ـ كجمعية الأمير فهد بن سلمان - هو احتقار التبرعات الصغيرة من قبلنا نحن جمهور المواطنين، فإحساسنا أن تبرعنا الصغير- عشرة ريالات مثلا في الشهر- لا يمكن أن يحدث شيئا له مفعول هدام على هذه الفعاليات الخيرية لأن هذا المبلغ إذا تراكم بفعل تبرعاتنا جميعا أصبح رقما مؤثرا. فلو تبرع مليون شخص شهريا بعشرة ريالات لتم جمع عشرة ملايين ريال شهريا تكفي لعلاج 100 مريض بشكل شهري، فالمريض يكلف تقريبا 100 ألف ريال في السنة. إن فعل شيء بسيط أفضل من عدم فعل أي شيء؛ فاتقاء النار يمكن ولو ''بشق تمرة'' والسيل المدمر أصله بضع قطرات ماء تجمعت حتى أصبح لها وجود مؤثر مهاب. وتبرع صغير كهذا ربما يزف لك دعوة طاهرة نقية قد تجلب رزقا كريما أو تقي من كرب عظيم.
والخطر الآخر هو في ترك تلك الجمعيات في الساحة منفردة تصارع لأجل أبناء وبنات هذا البلد المعدمين. ليس عذرا لوزارة الصحة، ولكن الحقيقة تبقى أن في كل مجتمع يوجد فقراء لا يستطيعون الحصول على رعاية صحية كافية - لأي سبب - ويتعرضون لأجل هذا إلى عقبات تؤدي بهم إلى التوسل والشحاذة في غرف الطوارئ أو أمام المستشفيات للعلاج. لنا الخيار إما في الصمت وتركهم يموتون ألما، ورمي الكرة على وزارة الصحة والنوم بكل راحة ضمير في مهاجع وفيرة ننعم بأجواء الراحة، منتقدين لوزارة الصحة، جالدين لها بأقذع السياط، منتظرين أن تتحرك بعد سنة أو عشر سنوات لعلاج المرضى. وليغرق هؤلاء في مصيبتهم. وأمامنا خيار آخر: أن ''نتداعى'' ونستشعر معاناة هؤلاء ونمد لهم يد المساعدة التي لن تنقص من أموالنا شيئا على الإطلاق، فما نقص مال من صدقة؛ ثم هو مبلغ زهيد، نترك أضعافه ''بخشيشا'' في طاولة قهوة بيروتية أو باريسية أو حتى في شارع التحلية.
جمعية الأمير فهد بن سلمان - يرحمه الله - من أروع الجمعيات شفافية. مكشوفة لا تستتر عن الأنظار في مصاريفها أو حتى عدد موظفيها، البالغ ستة أشخاص، والباقي متبرعون بأوقاتهم وجهدهم. وهذه – على الأقل بالنسبة لي شخصيا - أهم نقطة في موضوع التبرعات الخيرية. فأنا لا أرغب في أن أتبرع لجمعية مليئة بالموظفين البيروقراطيين الباحثين عن البدلات وعن السيارات المجانية وعن المكاتب الفارهة. ولاحظوا حتى في إعلانات الجمعية في الصحف، ستجدون أن الإعلان ''تبرع'' من الصحيفة المعلن فيها، وبالمثل الإعلانات في التلفزيون. ويعمل لدى الجمعية متبرعون فضلاء من كبار العلماء والأطباء والحكوميين. بمثل هذه الآلية في العمل، يتبرع المرء وهو مرتاح الضمير مقتنعا كامل القناعة بأن تبرعه في أيد أمينة، ويصل إلى مستحقيه بدقة متناهية. أنحتقر ''شق التمرة''؟ هي لا تبعد عنك عزيزي القارئ إلا المسافة إلى جهاز الجوال في جيبك. برسالة إلى الرقم 5060 وإدخال رقم 1 في النص ستتبرع بمبلغ 12 ريالا في الشهر حتى رمضان القادم، 144 ريالا، اعتبرها وجبة سحور (عزمت) لها صديقا اعتذر في آخر دقيقة. هو والله ليس تبرعا بل استثمارا سيبقى... أجزم أننا كلنا سنحتاج إليه يوم جرد الحسابات النهائية، يوم الخسارة الكبيرة أو الربح الأكبر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي