التحقيق في انهيار الأسهم

يقول وصلتني رسالة على جوالي في أحد الأيام قبل أحد الانهيارات لسوق الأسهم السعودية تقول ما نصه: "السوق خروج". أجاب برسالة تستفسر لماذا؟ فكان الرد: "مهوب شغلك". ليس من طبعه الإذعان بسهولة، فتمسك برأيه "الأعوج". خسف السوق 2000 نقطة تقريبا. يقول ركضت إلى صاحبي بعد أن أدمتني الخسارة، استفسر مستسلما لقدراته الخارقة.. سألته، هل انهيار سوق الائتمان العقارية الأمريكية له تأثير؟، أم تراه التضخم، أم أنها موجة ركود اقتصادي عالمية؟... فأعاد علي إجابته السابقة نفسها: مهوب شغلك!! بعد فاصل توبيخي على عدم سماع الكلام، قال أخيرا، قدس الله سره، إن هناك عصفورة تتسقط الأخبار، أخبرته بالرسالة. وإنها ليست الوحيدة التي تعرف هذا، وإن هناك من التقط هذه الإشارات وخرج من السوق قبل يومين. حدثت هذه الأحداث بشكل تقريبي في مكان ما.
لا أجادل أن هناك فناً في الاتجار في الأسهم. لا أجادل أيضا في حرية السوق. لا أجادل - أخيرا - في حق من يحصل على معلومة أن يستغلها. مشكلتي الوحيدة تكمن في استغلالية من يتبوأ مركزاً وظيفيا في مفصل حساس يخوله الحصول على المعلومة المؤثرة بشكل غير مشروع، ليستغلها على حساب البقية من المستثمرين. أناس يعملون في مفاصل حساسة معلوماتيا في سوق الأسهم، ائتمنوا بثقة عالية، ومع هذا، نفاجأ مع كل سقوط دام للسوق بخروجهم قبل الناس، وبثوان معدودة. يجب أن نعترف أن هناك من يستغل موقعه الوظيفي، سواء في القطاع العام أو الخاص، لتحصيل أرباح غير مستحقة أو تجنب خسائر لا يمكن تجنبها إلا بعلم الغيب أو بضربة حظ تتكرر مرة وحيدة في كل مليار مرة. لو أنها مرة واحدة لقيل هو الحظ أو الفن والخبرة. لو أنها تحدث قبل التصحيح بفترة زمنية معقولة، أسبوع أو شهر مثلا، لقيل هو حذر فطن. ولكنها يا سادة، ساعات. فكيف لهم بهذه القدرة التنبئية الخارقة؟ يستحيل! هي معلومات ليست متاحة للجميع.. وهذا أخطر فايروس يمكن أن تصاب به أسواق المال، لأن المعلومات المؤثرة يجب أن تكون متاحة للجميع، وفي الوقت نفسه، وإلا انعدمت الثقة بالسوق المالية. وعليه من يتمكن من الحصول على معلومات مؤثرة قبل الناس يجب أن يكون معروفا وممنوعا من الاتجار على الإطلاق، و بكل الطرق ... فهو عبث ليس بمال خاص بل بمدخرات شعب واقتصاد بلد.
بالطبع، انخفاض الأسعار حدث غير مستغرب، فقد حدث في بعض أنحاء العالم، وأن يخرج من السوق البعض أيضا غير مستغرب. وحتى خروج القطط السمان من السوق بثوان معدودة قد يكون طبيعيا. ولكن، في كل بلدان العالم المتقدم تفتح التحقيقات وتنشر الملفات لو أن أحد كبار المساهمين قام بعملية بيع أو شراء، إذا تلاها نشر خبر مؤثر، أو حدث حادث مؤثر في سعر السهم. لا أتهم أحداً. ومع هذا أعتقد أن فتح تحقيق ونشر نتائجه سيطمئن القلب على سوق المال. واقتصاد البلد. وأعتقد أن من لم يسترق السمع بشكل غير شرعي، فلن يخشى أي تحقيق بل سيرحب، هو، أولا بأية بادرة لإجلاء الإشاعة وطرد الكذبة. التحقيق في أي عمليات مؤثرة في المحافظ الضخمة (500 مليون فأكثر؟) في سوق الأسهم ولاسيما الذي يحدث في ظروف غير عادية يجب أن يحدث بشكل آلي مباشر حتى نضمن نزاهة السوق التي تتصارع فيها قوى كثيرة. دون تحقيق موضوعي ونشر لنتائجه، ستبقى الآليات نفسها تعمل لهدم منارة يفترض أن تكون مصدر رزق المواطنين، لا سببا لاحتراق مدخراتهم. ودون شفافية في إعلان نتائج التحقيق لن يكون لأي تحقيق أية هيبة. وستبقى السمعة المالية في مهب الريح، محليا ودوليا.
ختاما، أحترم مبادئ حرية السوق، وأقدر مخاطرها، وأعرف أنه لم يضرب أحد أحداً ليتاجر في سوق محفوفة بالانهيارات السريعة والقفزات الضخمة، ولكن هذا يتم احترامه فقط إن كانت قواعد اللعبة متساوية. أما أن تمكن أحد اللاعبين من كسر التسلل دائما، في كل هجمة مرتدة، مع عدم قدرة البقية من اللاعبين على كسر التسلل رغم محاولاتهم الجادة وفنياتهم المرتفعة، فهو شأن يستحق التحقيق للتأكد من أنها مهارة، مجرد مهارة استثنائية، وليست عملا يتوجب عقابه. قد تكون مهارات لا نعرفها. فقط أثبتوا ذلك للجميع. لا نريد التفاصيل، تكفينا بصمة أصغر أصبع في يد هيئة سوق المال. نحن في مفترق طرق: نظام يكافئ المجتهد على كفاحه وذكائه، ونظام يكافئ أناسا بناء على أشياء أخرى. الاختيار لنا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي