«نحو مدينة صناعية لتلبية متطلبات زوار الحرمين الشريفين»

شرف المولى ـ عز وجل ـ هذه البلاد ''بالحرمين الشريفين''، أقدس بقاع الأرض قاطبة، تهفو إليها النفوس، ويضحى من أجل زيارتها بالغالي والنفيس. فما إن تُرى الكعبة المشرفة خلال الأذان أو عند البث المباشر للتراويح في ليل رمضان إلا وتنهمر الدموع، وترتجف أبدان الملايين شوقاً لنيل شرف الزيارة، والصلاة والسير حيث سار المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصحابته الكرام. فهذه مشاعر لا يحسها ولا يقدرها إلا من أبعدتهم المسافات، فلم ينالوا هذا الشرف العظيم. فأتذكر رجلاً فقيراً في قريتي ظل لأكثر من عشر سنوات يوفر قوت يومه، بل وما يقدم إليه من زكاة، أملاً ليس في شراء ثلاجة أو تلفاز أو رداء جديد، وإنما أملاً في زيارة هذه البقعة الطاهرة، حتى ولو على سطح سفينة من السفن إياها، والعودة بهدايا رمزية تذكره وتذكر أقرباءه بهذه البقاع المباركة.
نعود للكلام في الاقتصاد. فمن نعم المولى على هذه البلاد أنها - بفضل منه سبحانه - ستبقى أبد الدهر في عزة ورخاء تلبية لوعد الحق تبارك وتعالى (سورة إبراهيم الآية 37). فالحرمان الشريفان وحدهما كفيلان بتلبية احتياجات المملكة، بل النهوض بها واستدامة تنميتها، ولكن فقط إذا ما تم استثمارهما الاستثمار الأمثل!
فمن منا لم يشرف بزيارة الحرمين؟ ومن منا لم يمش في الأسواق والمحال المجاورة والمحيطة بالحرمين؟ من منا لم يشتر هدايا وسلع من تلك المحال؟ من منا فكر وفحص وتعرف على مصدر تلك المنتجات؟ من منا فكر فيما لو أقيمت مدينة صناعية ''بين مكة والمدينة'' حيث تتولى تصنيع وإنتاج مختلف السلع التي تباع في أسواق الحرمين؟
نعلم جميعاً أن أكثر من 95 في المائة - إن لم يكن 99 في المائة – من المنتجات التي تباع في أسواق الحرمين ليست سعودية الصنع، فأغلبيتها صنعت في الصين وما حولها. أما آن الأوان لنفكر في استثمار هذا الكنز الثمين، ونكون في الوقت نفسه قد ضمنا توفير الآلاف من فرص العمل والدخول الحقيقية، وفي الوقت نفسه نكون قد نوعنا في قاعدة الاقتصاد الوطني؟
فالمملكة تشهد بالفعل طفرة في مجال إنشاء المدن الاقتصادية والصناعية، فلم لا تكون ''مدينة الحرمين الصناعية'' أو ''مدينة صناعات الحرمين'' أياً كان الإسم، أحد مفردات هذه المنظومة؟ أنا على يقين تام أن الزائر القادم من مصر أو روسيا أو حتى الصين سيفضل المنتج السعودي كهدية يعود بها إلى بلاده.. لماذا؟.. ببساطة لأنه من إنتاج بلاد الحرمين، صنع في مدينة الحرمين. فما جدوى أن يعود من مكة أو المدينة حاملاً سجادة أو مسبحة.... إلخ صنعت في الصين؟، فالسجادة أو المسبحة أو قطعة القماش الصينية تباع بالفعل على الطرقات في شوارع القاهرة وغيرها!!
إن قيام مشروع كهذا لن يوفر فقط المزايا والإيجابيات المشار إليها أعلاه، ولكنه في الوقت نفسه سيخفف العبء على ميزان المدفوعات الوطني، حيث ستتراجع فاتورة الواردات من تلك السلع التي سيتم تصنيعها محلياً في ''مدينة الحرمين الصناعية'' سواءً لخدمة الزوار أو حتى لخدمة المقيمين.
فمن المعروف أن المنسوجات والمنتجات النسيجية - على سبيل المثال - تستحوذ على حصة لا يستهان بها من مشتريات زوار الحرمين، ونعلم أيضاً أن أكثر من 80 في المائة من تلك المنتجات النسيجية يتم تصنيعها من خام البوليستر، الذي تصدره المملكة في صورته شبه الخام لمختلف الدول، وفي مقدمتها الصين، فتقوم الصين بتصنيعه سواء في شكل سجاد أو منسوجات وملابس، ثم تصدره مرة أخرى للمملكة. أليس من الأولى أن يتم تصنيع البوليستر في مدينة الحرمين الصناعية لإنتاج المنتجات نفسها؟ وحتى إذا رغبنا في خلط البوليستر السعودي بالقطن الطبيعي، فالقطن المصري أو السوداني ليس عنا ببعيد، وتكون فرصة لتعزيز الاستثمارات والتجارة البينية! وما قيل بالنسبة للبوليستر يمتد إلى باقي المنتجات التي تزخر بها أسواق الحرمين.
إذاً المطلوب لقيام ونجاح هذا المشروع الاستراتيجي اتخاذ الخطوات التالية:
ـ كخطوة أولية ينبغي القيام بإجراء مسح أو حصر لأبرز وأهم المنتجات التي يتم الاتجار فيها في أسواق الحرمين، إضافة إلى استقصاء آراء عينة من الزوار للتعرف على تفضيلاتهم وأبرز مشترياتهم، حتى يتم الإنتاج بالمواصفات التي تلبي متطلبات السوق. ـ يتم بعد ذلك إجراء حصر للإمكانات والقدرات الوطنية للتعرف على فرص ومعوقات قيام صناعات تغذي تلك الاحتياجات، ومن ثم تحديد المتطلبات المالية والمادية والتنظيمية لقيامه.
ـ يتم بعد ذلك بحث آليات وحوافز إقامة تلك المشاريع، مع بحث آليات جذب الاستثمارات الأجنبية للاستثمار في ''مدينة الحرمين الصناعية''. فلك أن تتخيل الميزات الكثيرة والمتعددة التي ستترتب على قيام تلك الصناعات، خاصة أن أغلبيتها سيكون في شكل مشاريع صغيرة ومتوسطة يتم تطويرها ضمن هذه الحاضنة (مدينة الحرمين الصناعية) وتحظى بدعم مختلف الجهات المعنية.
ـ وضع ضوابط واشتراطات على المنتجات التي تباع في الأسواق المحيطة بالحرمين لضمان مراعاتها الاشتراطات البيئية والصحية، فضلاً عن الإغراق وما إلى ذلك.
ـ الاستفادة من الحرف اليدوية المختلفة المنتشرة في مختلف مناطق المملكة ليتم التوسع في إنتاجها في هذه المدينة وبيعها في أسواق الحرمين، بل تصدير الفائض إلى الخارج.
ـ إعداد الكفاءات السعودية للعمل في المشاريع التي ستنشأ في هذه المدينة وتقديم مختلف صور الدعم والحوافز سواءً للمستثمرين أو للعاملين من السعوديين.
ليس لدي أدنى شك في جدوى هذا المشروع العملاق، الذي لن يكون مشروع اليوم أو الغد، وإنما هو مشروع باقٍ ومستمر في عطائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فالنفط مورد ناضب وإن طال الأمد، أما مشروع كهذا فلا مجال للحديث عن النضوب بشأنه. وبفضل من الله، أعتقد أن الفرصة مهيأة تماماً الآن لقيامه، من خلال استثمار الفوائض والموارد العامة والخاصة التي نبحث لها حالياً عن أبواب وقنوات استثمارية.
ولنجاح هذا المشروع (مدينة الحرمين الصناعية أو مدينة صناعات الحرمين)، لا بد أن يحظى باهتمام الجهات المعنية كافة، وفي مقدمتها هيئة المدن الصناعية والهيئة العامة للاستثمار والغرف التجارية والصناعية، وخاصة غرفتي مكة والمدينة، مع دعوة رجال الأعمال الوطنيين لبحث آليات وفرص ومعوقات إقامة هذا المشروع العملاق. فهل يمكن أن نحلم ونرى الحلم قد تحول إلى حقيقة؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي