رئة العالم في خطر

تعرضت غابات العالم أخيرا لعمليات تدمير متعمدة لمواردها الحرجية أثرت في صحة الغابات وحيويتها بصورة واضحة. وتشير الأرقام الواردة من تقارير منظمة الأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن المساحة الإجمالية الحالية للغابات الطبيعية أو المزروعة بالأشجار المنتجة وغير المنتجة في حدود 38 ألف مليون كيلو متر مربع (3800 مليون هكتار) وهذه المساحة تغطي نحو 30 في المائة من إجمالي مساحة الأراضي على سطح الأرض، وإن ما تم فقده من مساحة الغابات خلال العقدين الماضيين يزيد قليلاً على 120 مليون هكتار وبمعدل سلبي سنوي في حدود 0.2 في المائة وهو معدل مرتفع بجميع المقاييس يتطلب أكثر من وقفة لمعرفة مدلول هذا التغير:
الوقفة الأولى: إن الجزء الأكبر من هذا الفاقد – نحو 65 في المائة - تم في الدول كثيفة الغابات وتقف على رأسها روسيا (851 مليون هكتار) والبرازيل (532 مليون هكتار) وباقي دول أمريكا اللاتينية الجنوبية وبعض الدول الإفريقية جنوب الصحراء مثل الكونغو (153 مليون هكتار) وأنجولا (70 مليون هكتار).
الوقفة الثانية: يقدر إجمالي مساحة الغابات في مجموعة الدول العربية 73 مليون هكتار منها 62 مليون هكتار في السودان بمفردها، 11 مليون هكتار في باقي دول المجموعة.. ومعلوم جغرافياً أنها تقع في نطاق الدول الجافة وعليه فهي تصنف كمجموعة تحت خط الفقر (الغابي)، ولم يتأثر سلباً أو إيجاباً بالتغير الحادث في مساحة الغابات على المستوى الدولي باستثناء السودان التي سجلت انخفاضاً في معدل نمو الغابات بلغ نحو 1 في المائة سنوياً خلال العقدين الماضيين.
الوقفة الثالثة: إن هناك بعض الدول في باقي المجموعات الدولية، سجلت في المقابل زيادة في معدل النمو في مساحة الغابات خلال العقدين الماضيين وإن كانت زيادة محدودة تراوح ما بين 0.1 في المائة و0.5 في المائة من جراء الاهتمام بزيادة مساحة الغابات المخصصة أساساً للصيانة أو لتوافر المياه المتجددة بها بصورة دائمة، ويبرز في هذا المجال مجموعة الدول الأوروبية باستثناء روسيا، بعض الدول الآسيوية (نيبال – أذربيجان – أرمينيا)، مجموعة دول الكاريبي (جامايكا – هايتي – جزر البهاما...) والولايات المتحدة.
ولكن يبقى السؤال الأهم:
ما أسباب هذا التدهور الحادث في الغابات في العالم والذي أدى إلى النقص الواضح في مساحتها الحرجية؟
السبب الأول: الحرائق البرية التي تزايدت أخيرا في النطاق والتكرار في مناطق متعددة وأصبح من الصعب السيطرة عليها في ظل ما يعانيه العالم حالياً من تغيرات مناخية حادة وتزايد في فترات الجفاف تتزامن مع كوارث طبيعية مدمرة كالعواصف (إعصار ميتش كمثال) والاهتزازات الأرضية (النينيو) وغيرها. ومن البديهي أن تعوق هذه الحرائق إعادة الحياة إلى الغابات مرة أخرى.
السبب الثاني: الآفات الحشرية وهي تشكل جيشا منظما يعمل على تدمير الغابات والحد من جودتها بل وإصابتها بالمرض الذي ربما يؤدي إلى الموت العرضي. وتتضمن تلك الآفات مجموعة من الكتائب والسرايا الجاهزة للهجوم على نباتات الغابات من أمثلتها حشرة الخنفساء المدمرة لأشجار الصنوبر والقلف والكافور المعروفة في غابات آسيا وأمريكا اللاتينية، الذبابة المنشارية ناسجة العنكبوت المعروفة في لبنان، والمن الذي يصيب أشجار السرو والعرعر (مرتفعات عسير كمثال).
السبب الثالث: راجع للأنشطة البشرية من خلال الممارسات المتعمدة في عملية (إحراق) الغابات لزيادة الرقعة الزراعية دون الخضوع للرقابة، وقطع الأشجار بغرض التجارة أو التدفئة أو غيرها وما يترتب على ذلك من تحويلها إلى أراض عشبية غير مستغلة وكذلك ما يتعلق بإدخال النباتات الدخيلة على النباتات الأصيلة بالغابات من أجل الحصول على مكاسب اقتصادية من إمدادات المنتجات الخشبية وهو يعد غزوا بيولوجيا، وقد يكون لانتشار هذه النباتات الدخيلة تأثيرات سلبية بيئية نتيجة الخلط ودخول تركيبات وراثية جديدة للأشجار وتغيير في النظم التركيبية للنباتات مثيرة للقلق.
وإذا كان هذا الثالوث (الحرائق – الآفات الحشرية – الأنشطة البشرية) هو المحرك الأساسي لتدمير الغابات في الوقت الراهن فإن الخطر المقبل أشد وهو يتعلق بازدياد استخدام الغابات كمصدر للطاقة وكوقود حيوي بديلاً للوقود الأحفوري، حيث يمكن استغلال الكتل الحيوية المنتجة للنشا من الأخشاب لإنتاج الإيثانول ليحل محل البنزين مباشرة في المركبات (بعد إجراء التعديل اللازم في محركاتها) أو إنتاج وقود (بيوديزل) يمكن خلطه مع الديزل في المحركات وتخطط العديد من الدول في أوروبا وأمريكا اللاتينية للتوسع في استخدامات هذا النوع من الوقود الحيوي على حساب الغابات المزروعة للحد من التدهور البيئي الناتج من الوقود الأحفوري.
وخلاصة القول، إذا استمرت معدلات النمو السلبية في مساحة الغابات على ما هي عليه في الوضع الراهن فإن من المتوقع أن تنخفض المساحة الإجمالية لغابات العالم خلال الـ 50 عاماً المقبلة بنحو 10 في المائة أو 380 مليون هكتار وبما تصل إلى 600 مليون هكتار مع نهاية القرن الحالي. وهي ظاهرة تحتاج إلى مراجعة من جميع الجهات والمؤسسات الدولية المعنية ووضع الأنظمة والسياسات المنظمة للتنمية المستدامة للغابات وأن يؤخذ في الحسبان أن إدارة الغابات هي مسؤولية سيادية تخضع للمستوى المركزي للدولة وغير قابلة للخصخصة.لقد حافظت المياه والغابات منذ القدم على استمرارية الحياة على كوكب الأرض، فالمياه مطلوبة لتأمين الغذاء والغابات كانت وما زالت هي رئة العالم وهناك ضرورة ملحة لحماية الغابات لضمان التوزيع النسبي لمخزون غازي ثاني أكسيد الكربون والأكسجين في الغلاف الجوي وحتى لا تتعرض رئة العالم إلى خطر محدق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي