أهلا شهر الخير والبركات

الحمد لله الذي بلغنا شهر رمضان، وجعله موسما للرحمة والغفران وسبيلا للعتق من النيران. ونسـأله تعالى أن يتم نعمته علينا ويعيننا على صيامه وقيامه ويصلح أحوالنا صلحا يؤهلنا للتعرض لنفحاته - عز وجل.
إن من نعم الله علينا أن أكرمنا بهذه المواسم المتجددة لنتعرض لنفحاتها العظيمة وبركاتها الجليلة. وشهر رمضان عطية من عطايا الرحمن، يعلمنا حبس النفس عن الشهوات وفطمها عن المألوفات وتعويدها مراجعة الذات. فلا نجعل من هذه الحياة الدنيا المملوءة بالشواغل والمغريات همنا الأكبر الذي يصرفنا عن مهمة المهمات وهي عبوديتنا لربنا ورب سائر المخلوقات. والعاقل من أدرك أن هذه الشواغل هي المادة التي ابتلانا بها المولى تعالى ليمتحننا بها. فمن الناس من يترفع عنها ويتغلب على آفاتها ويستجيب لأمر ربه، فيرقبه في كل ما وكّـل به، فيفوز بسعادة الدارين. ومنهم من يركن إلى شواغل الدنيا فيجعلها همه الأكبر ولا يرقب في الله ذمة ولا عهدا فيُقضى عليه بالشقاء - والعياذ بالله - ولا ينال منها إلا ما كتب له.
يظن بعض السذج أن المقصود التخلص من هذه الشواغل. وليس هذا هو المقصود قطعا، فهي من مقتضيات حياتنا الدنيوية، ولا مفر من أن نعيش غمارها. فليس الغرض أن يفر الناس من نظام الحياة الدنيا ومجتمعها الإنساني، بل مطلوب أن يكونوا منخرطين فيها ولكن مترفعين في الوقت ذاته فوق أوضارها، يجابهون مغرياتها ويتحكمون فيها، دون أن تتحكم فيهم. أما قصد الشارع فهو مصارعة المشاغل حتى نتغلب عليها ونسخرها فيما يرضاه لنا المولى منها، فلا نتركها تقودنا للانزلاق في حمأة الأهواء والمغريات. والمتدبر يجد أن الصوم هو لجام للمتقين، وُجنّةُ للكادحين، ورياضة للأبرار والمقربين، وهو من بين سائر الأعمال لرب العالمين: (إلا الصيام فهو لي، وأنا أجزي به). وأعلى مراتبه حفظ الجوارح عن الآثام وصوم القلوب عن الهمم الدنيئة والأفكار المبعدة عن الله تعالى.
يظن بعض الناس أن مجرد إقامة مظاهر الدين، على أهميتها، كاف لرفع ما نحن فيه من عنت وهم وذل وهوان. غير أنه إن لم يتوافر الإخلاص لله في القلوب لم تثمر الطاعات الظاهرة، وإذا لم تتهذب النفوس بالأخلاق الفاضلة لم يغنها ما قد يبدو للناس منها من مظاهر الصلاح والتقوى.
وعجيب حقا حال الإنسان! فمع حرية الاختيار التي اختصه بها المولي ـ عز وجل ـ دون سائر المخلوقات، تراه بدلا من أن يزداد إقبالا على ما كلف به، يتخذ في كثير من الأحيان من مزية حرية الاختيار طريقا لمخالفة أمر مولاه وسبيلا للجدل فيما يحيد عما يرضاه. ومع ذلك لدينا هذه المواسم العظيمة التي تتيح لنا التقوى بخير زاد يرشدنا للوصول إلى ما يرضي رب العباد. ومن يتأمل ما عليه حال كثير من المسلمين اليوم من معاص وآثام خطيرة، يجدنا مغمورين بألطاف عظيمة منه تعالى. فنحن نرى كيف أفاض الله ـ عز وجل ـ علينا بثروات مادية كبيرة ونعم واسعة جليلة تستوجب منا الشكر والالتزام بما يترتب عليها من واجبات. لكننا جحدنا النعم ولم نحمدها حق حمدها، ولا رعينا ثرواتنا حق رعايتها. ومع ذلك نمضى في غينا آملين أن يغمرنا المولى بمزيد من كرمٍ ولطفٍ لا نستحقه. إن بعد الأمة عن هدي خالقها هو السبب الذي أوقعها اليوم فيما تعانيه من ذل وهوان. وهذا الضعف هو الذي أدى إلى ضياع المصداقية بين أطراف المجتمع، وفقدان الثقة بينهم، وتصدع وشائجهم، وتوتر خوالجهم. وما من شيء يمكن أن تصاب به أية أمة أسوأ من هذا الخلل. فالخلل النفسي والاجتماعي أخطر من أي خراب يحدثه أي سلاح مادي. ونحن نرى اليوم كيف تموج أمامنا ومن حولنا الاضطرابات أمنية والتقلبات الاقتصادية والتحديات الاجتماعية، ومع ذلك فما أقل الاعتبار. الأمة في حاجة لسرعة إصلاح أحوالها وإعادة ترتيب أولوياتها. وهذا الشهر فرصة لنتصالح فيه مع ربنا ومع أنفسنا أفرادا وجماعات حكاما ومحكومين. اللهم اجعله بفضلك ومنـّك وواسع رحمتك شهرا كريما مباركا على أمة المسلمين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي