Author

الأمراض النفسية

|
يتعجب الإنسان من كيفية هبوط الإنسان إلى قعر مخيف فيدمن المخدرات، ليصل به الحال إلى حقن نفسه بجرعة هيروئين بـ 300 ريال، ولا يقف الأمر عند هذا، بل إلى تخريب جسمه إلى درجة أن ينقل إلى المشفى ليلا نازفا من الحقنة اللعينة في شريانه؛ فيعمل عليه الأطباء وهو ينزف يسبح بين الموت والحياة، في ساعات من الجهد والمحاولة لتخليص روح إنسان غارق في المخدرات. وهذا يذكرنا بقوله تعالى: «وكان الإنسان أكثر شيء جدلا». وأذكر أنا من رحلتي في كلية الطب يوما لا يبارح الذاكرة حين أخذنا أستاذ الأمراض النفسية إلى مشفى القصير خارج مدينة دمشق إلى مستشفى الأمراض النفسية. أتذكر المريض الأول تماما وكأنه أمام عيني فقد تقدم إلينا رجل طويل القامة، جميل الهندام، حليق الوجه، ذو سحنة جميلة، وشاربين عريضين، وقدمه إلينا أستاذنا ثم فاجأه بالسؤال: تفضل وأخبر الأطباء من حولك عن سبب قتلك للضابط العميد؟ بدأ الرجل المهذب يتكلم بأسلوب واضح، وعبارات طليقة، ولغة مسترسلة: قتلته لأنه كان يتآمر علي! قاطعه الأستاذ سائلاً ما رتبتك في الجيش؟ أجاب: مساعد أول! سأله الأستاذ وكيف قتلته؟ أجاب قائلاً: لقد عبأت مسدسي ثم وبعبارة لا تخلو من الاعتداد بالنفس قال: لم أشأ قتله غدراً من الخلف، بل طلبت منه الاستدارة وقتلته مواجهة! كان هذا عندما كنا طلاباً في كلية الطب في الصف الخامس، حيث بدأنا في اكتشاف عالم جديد في الطب هو غير ما تعلمناه من العلوم الطبية، سواء منها ما قبل السريرية من أمثال تشريح الجسم والفيزيولوجيا وآليات الاتزان في البدن، أو عالم الأمراض السريرية مثل فقر الدم والتهاب الزائدة الدودية وأورام الكولونات وكسور العظام. كان هذا العالم هو (الطب النفسي). نقلنا إلى عالم جديد هو العالم المعنوي والقوانين النفسية التي لا تقاس بميزان الحرارة، ولا ترى بأشد المجاهر تكبيراً. كان ذلك اليوم بالنسبة لي صدمة روحية لم أستفق منها بسهولة لهول ما رأت عيني. في تلك الساعات القليلة، فقد عانيت من مشاهدة انهيار كامل لعالم كامل، وكانت هذه الساعات القليلة هي الانعطاف الثاني في حياتي، في رؤية الإنسان من منظر مغاير، ومشهد انقلابي، ودمعت عيني مرة ثانية كما دمعت من قبل عندما وقع نظري على أول جثة إنسانية أوقعها حظها تحت مشارطنا فاستسلمت بدون مقاومة، وبقيت تقطع ويتغير لونها، ونحن نكتشف فيها ممرات الأعصاب، وحبال الشرايين، حتى وصلنا إلى العظام وهي رميم. وتلك الجثة لا تنطق حرفاً ولا تشكو برداً أو عرياً؟ لم نعرف من أين جاءت، ولا كيف عاشت وعانت. أما اليوم فقد اكتشفنا ووصلنا إلى ما لم نصل إليه من تلك الجثة المسكينة! لأنني وجدت مع ذلك الرجل الذي فقد المجال المغناطيسي الروحي، واختلت بوصلته النفسية، أن أعظم شيء يفقده الإنسان على الإطلاق هو ذلك الاتزان العقلي الروحي. وعرفت أن فقد المال والعقار، بل الصحة والجمال ليست شيئاً، بل ولا تقارن بهذه الهوة الجهنمية التي قد يهوى إليها الفرد بانحداره إلى المرض النفسي. استندت بذقني على كفي أتأمل الرجل كالمصعوق ولا أكاد أصدق. كان الرجل مصاباً بداء البارانويا أو الزوّر. كان يرى كل من حوله يتآمر عليه، وكل اثنين يتكلمان ينويان به شراً. هذا التردي العقلي هو الذي غلف صاحبنا فلم يعد يبصر شيئاً فمسحت عقله واستلبت لبه فلم يعد يستطيع التفريق بين الممكن والمستحيل.
إنشرها