الحالة العراقية

تلقت إدارة بوش قبل إقدامها على غزو العراق تقارير مفصلة عن الأوضاع المتوقعة في العراق بعد غزوه. كان الهدف منها تنوير الإدارة عن كل ما هو متوقع. والذي يدفعني إلى الكتابة حول هذا الموضوع هو مدى الدقة التي قدمها جامعو المعلومات ورجال الاستخبارات، التي نشرت في الأسابيع الأخيرة في عدد من الصحف الأمريكية. ولسان حال من ينشر هذه المعلومات يقول إن ما اعتقده بوش نزهة تحول إلى كارثة وإن جميع توقعاته السياسية من وراء غزو العراق باءت بالفشل فالصديق قبل العدو في المنطقة تأكد من سوء نية الولايات المتحدة، لذا فقد هبطت شعبيتها إلى الحضيض، بل إن المكاسب المالية لا توازي الخسائر المادية والأدبية والنفسية التي تجشمتها واشنطن.
والأدهى من ذلك أن جميع الجهود المبذولة لتغيير الصورة وحل المشكلة وإقرار التوازن أصبحت في غاية الصعوبة، بل إن الانسحاب الأمريكي من بلد يحارب ضد الجيش الأمريكي الذي ظن أن الشيعة والسنة سيقتتلان ولكن كليهما لن يقترب منه. وجاءت الأحداث بعكس ذلك فبرغم كل القتامة التي سادت العلاقات الشيعية - السنية، أدرك العراقيون أن قوتهم ونجاحهم في تآلفهم برغم كل الجهود الأمريكية لمنع ذلك.
نعود إلى ملخص للتقارير التي كتبها خبراء الاستخبارات عن تصوراتهم للعراق بعد الاحتلال.
ركزت التقارير على ثقافة سياسية عراقية لمن تسمح للديموقراطية (على النمط الأمريكي) بالازدهار، وتنبأ هؤلاء أن العراق يلزمها وقت طويل لاستيعاب الأحلام والتخيلات الأمريكية.
وأكدت التقارير على أهمية وضع مشروع تنموي شامل على غرار مشروع مارشال، الذي نهض بألمانيا المنهزمة في الحرب العالمية الثانية رغم ثراء العراق نفطيا.
وأوضح التقرير أن السنة لن يهدأ لهم بال بعدما فقدوا مزية السلطة بإعدام رئيسهم صدام حسين وأن الشيعة لن يحسنوا قيادة البلد الذي أسلم القياد لهم تحت الرماح الأمريكية بحكم كثرتهم، وأن الشيعة أيضا وقد حرموا من السلطة طويلا سوف يتعسفون في استخدام هذه السلطة، وهو ما يجري فعلا، بل إن الشيعة ـ كما ذكرت التقارير ـ أكثر من فريق وهم شديدو العناد ويصعب التأليف بين قلوبهم.
وتنبأ أحد التقارير بأن الحرب الأهلية ستمسك بتلابيب العراق سنوات كثيرة لأسباب عرقية وثأرية وتدخلات أجنبية ومصالح عالمية (السلاح ـ النفط)، أن الحيلولة دون ذلك لا يمكن أن تتحقق إلا إذا بقيت قوة احتلال كبيرة لفض الاشتباك وإبعادهم عن بعضهم. وإذا بقيت قوة الاحتلال فإنها تثير المشاعر الوطنية للعراقيين وتتعرض بدورها للاستنزاف. لقد قرأ بوش كل ذلك قبل أن يشن الحرب، وها هي جميع الأمور تتحقق، بل إن إنشاء دولة كردية كمطلب إسرائيلي قديم ـ حتى لا تكون إسرائيل هي الكيان غير العربي الوحيد في المنطقة. هذا التطور لن يستمر طويلا، لأن الدول التي تضم الأكراد ضد فكرة الدولة الوطنية الكردية (إيران ـ سورية ـ أذربيجان، والأهم تركيا).
وسجلت بعض التقارير أن الحل يكمن في تحقيق رخاء سريع بعد دخول العراق مباشرة، مما يوفر حياة ثرية بديلة تجعل العراقيين ينبذون ماضيهم ويعيشون حياة الترف في حياة جديدة. ولكن التقرير لم يذكر كيف يمكن تحقيق رخاء في بلد تعصف به الحرب الأهلية والحرب ضد الاحتلال والحرب الثأرية.
ولعل أهم التقارير، الذي أوجع بوش كثيرا هو أن ضرب صدام إحياء للإسلاميين وإذا وقف الإسلاميون في الساحة فإن إخماد نيرانهم سيكون أصعب مئات المرات من القضاء على صدام لأنهم عقائديون، كما أن الرغبة في تصدير الديموقراطية مطلب مرفوض في جميع البلاد العربية، التي تفضل تطوير نظمها السياسية اعتمادا على ثقافتها وظروفها وفهمها لأولويات شعوبها. وتضمن التقرير أن حرب "العصابات" التي سيشنها العراقيون ضد الجيش الأمريكي ستحظى بشعبية هائلة في العالم العربي والإسلامي وتفتح بوابات لطوفان كبير على أمريكا.
وقد أثبتت الأيام أن رؤى الاستخبارات وتقاريرها القائمة على التوقعات صادقة ويمكن القول إنها تحققت بالكامل، والدليل هو تلك الحيرة الأمريكية بالنسبة لقرار الانسحاب من العراق، لأن الانسحاب سيعني عودة إلى فوضى وربما إلى آخر ما كان يريده الأمريكيون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي