قبل أن تكاثروا الأمم يوم القيامة نافسوهم على الحياة (2 من 2)

نواصل اليوم في هذه الحلقة ما انقطع من حديث عما ورد في مقال الدكتورة نورة السعد بعنوان ''الاستثمار في النساء خيار ذكي''.
تعد باكستان دولة مسلمة تكونت من انفصال المناضل محمد علي جناح عن مسيرة النضال الهندي للتحرر من الاستعمار البريطاني لشبه القارة الهندية وتكوين دولة إسلامية الطابع بعدما استشعر رغبة بريطانية في تشتيت قوة المسلمين التأثيرية من خلال توزيع حكومات الاتحاد الهندي, وتكونت باكستان الدولة من أكثرية مسلمة من السنة والشيعة وأقلية من ديانات أخرى, وباتت الدولة تحكم من خلال نظام إسلامي التشريع وخلال مسيرة الدولة عاشت صراعات سياسية داخلية تمثلت في تشتت الرؤية الاستراتيجية وتجاذب مصالح الطامحين إلى السلطة وضعف الوعي الوطني الشامل وسيادة الانتماءات الفئوية والقبلية, ما جعل إدارة البلاد بين دفع وجذب وكان لصراعها مع الدولة المجاورة الهند حول مسائل لم تحسم في تقسيم منطقة كشمير - التي أراد البريطانيون بتقسيمها خلق بؤرة صراع كما هي عادتهم في كل بلد تركوه بعد استعمار - حتى أصبح هذا الصراع مع الهند أداة سياسية داخلية في باكستان يشعلها من تضعف شعبيته, باكستان اليوم يمضي سياسيوها وقتا أكبر في معالجة شؤون لا علاقة لها بتنمية المجتمع بل هي محض أمور سياسية خارجية, فالصراع مع الهند أجبر باكستان على صرف موارد هائلة في سبيل تطوير قدرات عسكرية وذرية كانت على حساب التنمية الاجتماعية ومن ثم دخلت في تهيئة حكومة من الهواة لأفغانستان أدخلتها وباقي العالم الإسلامي في نفق الصراع غير المتكافئ مع أمم أقدر وأبلغ أجبرتها كحكومة على تجرع مرارات وتحمل ضغوط أفضت إلى شنها حرباً داخلية على من كانت في يوم ترضع وتنشئ. باكستان بلد أهملت تنظيم الأسرة فباتت تزداد فيها الأمية كل يوم حيث يحرم من التعليم مئات الآلاف وتتجذر فيها النعرات القبلية والولاءات الطائفية وتفقد البلاد بالهجرة آلاف المتعلمين, ويزيد السكان بصورة متوالية هندسية حتى بلغ عدد سكان باكستان اليوم 180 مليون نسمة لتحتل الترتيب السادس بين أكثر دول العالم سكاناً ودخل الفرد لا يتعدى 1044 دولارا وترتيبها 139 بين دول العالم على معيار التنمية البشرية. فما مستقبل بلد بهذا الحجم من التحديات؟ واقع باكستان الاقتصادي اليوم غير جيد فهي ترزح تحت ديون خارجية بمليارات الدولارات لا سبيل لتسديدها إلا بمقايضة ذلك بمواقف سياسية تجعل من باكستان الدولة والشعب رهينة لخدمة مصالح قد لا تصب في مصلحتها, فهل في ذلك عزة ؟! المستقبل لديه الجواب.
الدولة الأخرى هي الهند التي انطلقت مع باكستان في المسيرة نفسها وناصبتها العداء ورهنت مقدراتها ردحاً من الزمن في سبيل التفوق العسكري على باكستان ووصلت فيها التنمية الاجتماعية الحضيض حتى استشرت فيها العبودية والقهر والظلم ولكنها استفاقت من الكابوس الذي كان يديره مجموعة المنتفعين وقررت أن تنمو وأن تغير واقع الشعب الهندي المختلط الذي يمثل فيه المسلمون ما نسبته 13 في المائة جلهم من المحرومين من العدالة والتعليم. في الهند اتخذت الدولة الاتحادية قرارات مهمة على صعيد التنمية الاجتماعية فسارعت إلى سن قوانين تحد من التكاثر البشري والظلم الاجتماعي والاستعباد للفقراء وتشغيل الأحداث وظلم ذوي القربى - كل هذه ظواهر تنمو في المجتمعات المتكدسة بشرياً وقليلة التنمية – الهند اليوم ما زالت تعاني كثيرا من تلك الظواهر التي رافقت نموها السكاني على مدى الـ 50 سنة الماضية, وهي اليوم ثاني أكثر دولة تعدادا للسكان في العالم ولكنها بدأت تعكس المعادلة وتتحكم في نموها السكاني حتى بات الاقتصاد الهندي يحقق نموا حقيقيا تعدى 10 في المائة وحققت على مدى السنوات الخمس الماضية زيادة مطردة في دخل الفرد الذي كان بضعة دولارات منذ ما يزيد على عشر سنوات وباتت تحتل المرتبة 132على معيار التنمية البشرية بعد أن كانت في ذيل القائمة قبل سنوات. وعلى الرغم من تأثير الأزمة المالية العالمية في الاقتصاد الهندي إلا أنه بات أقدر على النمو في المستقبل وتعد الهند مع الصين أكثر الدول نموا في طلب المنتجات النفطية, وهو من أهم الدلالات على النمو في القدرات الإنتاجية للمجتمع.
الدولة الثالثة هي فرنسا وهي الدولة التي يستشعر سكانها الأصليون خطراً من نمو الفئة السكانية الجديدة في المجتمع التي تتمثل في خليط من المهاجرين معظمهم من المسلمين فباتت تصدر قوانين تهدف في ظاهرها لتجانس المجتمع ولكن في باطنها قوانين إرغام للفئة الجديدة على الاندماج في النمطية الفرنسية التقليدية, وبات هناك صراع خفي تمثل في بعض الأحداث التي ألمت ببعض ضواحي باريس, والمراقب لا يملك إلا أن يتوقع استشراء ذلك الصراع الذي سيكون له إفرازات قد تؤثر في مدى قبول الأوروبيين للمهاجرين المسلمين وتخلق صراعا إثنيا دينيا بين السكان الأصليين الأوروبيين المتمكنين من الاقتصاد والتنمية والمهاجرين وأجيالهم اللاحقة والمتوالدة بصورة تفوق معدلات الولادة ضمن السكان الأصليين, ما يحد من قدرتهم على ضمان القدر المناسب من التنمية البشرية حيث سيكون للقوانين التي سيفرضها السكان الأصليون أثر في حرمان الفئة الجديدة من التعليم المجاني والرعاية الصحية بحجج متعددة, ما يجعل واقعهم واقعا مزريا يشعرهم بالإهانة والمحدودية البشرية.
في هذه الأمثلة التي أوردتها أين يكمن مستقبل أفضل للمسلمين؟ إنه لا شك يكمن في الهند وهي الدولة التي لا تحتكم إلى شريعة إسلامية ولا يمتلك فيها المسلمون كثيرا من القرارات السياسية ولا حتى على مستوى الأقاليم, ومع ذلك فبينهم تزداد نسبة المتعلمين وترتفع كفاءتهم الإنتاجية, وما هذا ناتج إلا عن عملية تنظيم الأسرة لا عن قرارات سياسية ولا عن انتصار في صراع سياسي أو عسكري. إن ما يجب على المسلمين دولاً وأفرادا أن يعوه فيما يخص عملية التكاثر, هو أن التكاثر العددي لن يكون في صالح التنمية البشرية للمسلمين, ما يجعلهم أفقر الأمم من حيث الإنتاجية فيعيقهم تفشي الأمراض والجهل وسوء التغذية وكلها نتيجة لعدم كفاية الموارد للأعداد المتزايدة من البشر, ما يجبرهم على القيام بالأعمال الرخيصة والوضيعة في المجتمعات التي يعيشون ضمنها ويجعلهم كدول عرضة للاعتداء والاستغلال من قبل حاكميهم ودول التسلط العالمية. إن المعادلة الصحيحة تكمن في عكس الواقع بحيث يعمل كل والدين مسلمين بكل جد لتمكين فرد جديد ينتج منهما من تحقيق معدلات تنمية بشرية أعلى من واقعهما من حيث التعليم والصحة والمعيشة, بهذا يتكون مجتمع جديد قادر على تغيير الواقع وتحسين الإدارة السياسية والاقتصادية, وبعد أن يتحقق ذلك المجتمع القادر على منافسة الأمم الأخرى في التمتع بموارد الأرض يكون عليه التكاثر بصورة تضمن عدم انحدار تنميته تحت ضغط الكثرة وعمل توازن مستمر بحيث يحقق المجتمع تنمية مستدامة في الموارد والقدرات والتمكين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي