قمة الثماني ومحاولة قطع الطريق على الاقتصادات الصاعدة

بعد استفحال الأزمات الاقتصادية والسياسية الأمريكية في العالم والوجه غير المفضل الذي أطلت به أمريكا على العالم وانحسار مصداقيتها في عصر العولمة الذي تطلب سلوكيات جديدة خصوصا بعد انتهاء الحرب الباردة وعدم تقبل الشعوب والجماهير للأيديولوجية الأمريكية ولا للسلوك الأمريكي, وبعد أن انتهج النظام الرأسمالي العالمي وطور استراتيجية جديدة لتنظيم وتحفيز خطط تراكم رأس المال التي قامت على أساس تكثيف استغلاله وإحكام قبضته في العالم بأسره على الشعوب والأمم المقهورة والمضطهدة في أطراف النظام أو العالم الثالث, نعرف إذن لماذا القلق الأمريكي الكبير من جراء صعود الصين والهند مدفوعا بتعقد عمليات التنبؤ بما يمكن أن يحدث فعلاً للاقتصاد الأمريكي والاقتصاد العالمي، الصين والهند وقبلهما روسيا قد واصلوا صعودهم إلى مكانة أعلى في سلم القوى الاقتصادية الأعظم في العالم, بينما واصلت الولايات المتحدة انحدارها على هذا السلم, لذلك يجب أن يدفع الأمريكيون والغرب باتجاه تقديم المزيد من التنازلات والكثير من التسهيلات والمساعدات التنموية إلى دول العالم الثالث إن أرادوا أن يقفوا فعلا في وجه هذه القوى الصاعدة التي تهدد اقتصادياتهم, وعلى أنقاض العقوبات الاقتصادية التي فرضتها واشنطن على بعض دول منطقة القرن الإفريقي فقد آن الأوان لتعويضها عن ذلك ببرامج المساعدات الإنمائية, هل اقتربت الساعة لدرجة اختلطت فيها مواضيع الساعة وانشقت السماء فهي يومئذ واهية؟ وذلك بعد أن سيطرت مجموعة الثماني التي ولدت من رحم أزمة النفط والركود الاقتصادي العالمي في أوائل السبعينيات وضمت بين ثناياها الدول الصناعية السبع الكبرى، إضافة إلى كندا وروسيا, وبعد أن ناقش رؤساء دول المجموعة وهم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وروسيا واليابان وكندا وألمانيا وإيطاليا، إلى جانب قوى اقتصادية صاعدة وقادة مجموعة الخمس «جنوب إفريقية والبرازيل والصين والهند والمكسيك» وأستراليا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية, يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية, لقد تأرجحت موازين القوى بصورة أكبر عندما اغتنمت هذه الدول الصاعدة والناشئة القمة للتصدي للنزعة الحمائية فقررت إنجاز مفاوضات جولة الدوحة التجارية بشأن تحرير التجارة العالمية في 2010, وفي ظل وجود قائمة طويلة من القضايا راوحت بين التغيير المناخي ومنع الانتشار النووي اكتنفت زوايا القمة التي عقدت في مدينة أكويلا الإيطالية, لكن عند مقارنة هذه القمة بمنتدى دافوس الاقتصادي نجد أن القاسم المشترك بينهما هو الاضطرابات والمظاهرات وأعمال الشغب التي تدور رحاها أثناء انعقاد القمة، وهي إشارة إلى أن الأغلبية الساحقة أو الطبقات الفقيرة أو مصالح الشعوب وسكان المعمورة عادة لا تخدمها قرارات مثل هذه القمم, مجموعة الثماني هل هي مؤهلة لقيادة العالم وحل جميع مشكلاته العالقة دون تحيز لأي جانب على حساب آخر؟ وهل يستطيع المعارضون لمجموعة الثماني اتهامها هذه المرة بأنها مثلت مصالح الدول الصناعية فقط وضربت بعرض الحائط احتياجات باقي دول العالم؟ هذا هو الاجتماع المهم للثماني الكبار في العالم لصيانة ماء الوجه وللمحافظة على المكتسبات عبر مناقشة القضايا العالمية الكبرى والملفات الساخنة في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والصحية, إنها لفرصة ثمينة للولايات المتحدة لتحسين صورتها التي اهتزت مع تراجع الدولار وانهيار القطاع العقاري وأسواق الائتمان، لكن لا نحتاج إلى أن نوصي بذلك فقد دفعت الولايات المتحدة باتجاه التحول إلى الاستثمار في المساعدات الزراعية كبديل للمساعدات الغذائية، وأنها ستوفر 3.5 مليار دولار لبرنامج يستغرق ثلاث سنوات, في الوقت الذي أدارت ظهرها للصين عندما طالبت بأن يدرج في جدول الأعمال إعادة النظر في اعتماد الدولار كعملة مرجعية في العالم, في مقابل ذلك فقد تعهد زعماء مجموعة الدول الصناعية الثماني الكبرى بتقديم دعم بقيمة 20 مليار دولار للزراعة في الدول الفقيرة من أجل مساعدتها على الاكتفاء الغذائي خصوصا أن الأزمة المالية دفعت بعدد قارب 103 ملايين شخص نحو الجوع هذا العام وحده, وهو ما فاق التوقعات وكشف عن توجه جديد للقمة إلى جانب تعهدها برصد 15 مليار دولار على مدى ثلاث سنوات لضمان الأمن الغذائي في العالم، كما جاء في البيان المشترك, عملت القمة أيضا على توفير فرص أخرى لأذرعها ومؤسساتها المتداعية لأن تثبت نفسها بعد أن اهتزت مصداقيتها من جراء الفساد الإداري كصندوق النقد الدولي الذي عاد اليوم ليبرز في دور المنقذ للعالم ومنح قروضا لدول مختلفة بعد أن حقق هدفا قياسيا تمثل في رفع قيمة الموارد المالية المتاحة أمامه من 250 مليار دولار فقط في السابق إلى 750 ملياراً, وفي انتظار توزيع مغانم أخرى, بحث قادة دول المجموعة اتخاذ إجراءات موحدة لمواجهة الأزمة المالية العالمية وتغير المناخ والبرامج النووية في كل من إيران وكوريا الشمالية اللتين جرى تصنيفهما على أنهما تهديد رئيس لنظام منع الانتشار النووي، وهو منحى سياسي يعزز الخطط الأمريكية والغربية ويقمع اتجاه الضد الصاعد أيا كان نوعه, وقال القادة في إعلانهم المشترك: «إنه في الوقت الذي توجد فيه مؤشرات على الاستقرار ولا سيما نهوض أسواق البورصة فإن الوضع لا يزال غامضا، وهناك مخاطر كبيرة لا تزال محدقة بالاستقرار الاقتصادي والمالي، وسنقوم باتخاذ الخطوات الضرورية لإعادة الاقتصاد العالمي إلى مسار النمو القوي والمستدام», المقصود هنا بالمخاطر الكبيرة المحدقة بالاستقرار الاقتصادي هي صعود نجمي الصين والهند تدعمهما روسيا, لكن على نقيض القمم السابقة فإن هذه القمة قد أجبرتنا أن نحسب نقاطا إيجابية لها وهي إطلاقها لوعودها بزيادة المساعدة العامة للتنمية لمصلحة إفريقيا وزيادة هذه المساعدة بمعدل 25 مليار دولار سنويا خلال الفترة بين 2004 و2010, والتزامها بمبادرات جادة لمكافحة الجوع في العالم بقيمة تراوحت بين 10 و15 مليار دولار, حيث من المتوقع أن يصل عدد الذين يعانون سوء التغذية في العالم 1.02 مليار شخص هذا العام, نقول هذه المبادرات لا شك أنها توجه إيجابي ولا يستطيع أحد أن يقلل من أهميتها, وعلى الرغم من تحذيرات منظمات المساعدات التي تقول إن بعض دول الثماني تراجعت عن وعدها خاصة إيطاليا التي تستضيف قمة الثماني هذا العام, لكن الأمل لا يزال يحدونا ونحن نضم صوتنا إلى القادة الأفارقة الذين أفصحوا عن مخاوفهم في أن تأخذ هذه الوعود حيز التنفيذ دون تسويفات أو مماطلات أيا كانت الظروف، ونأمل بقوة ألا تكون مجرد وعود براقة، كما نأمل أن يتم تشكيل لجان تحاسب الطرف المقصر في تعثر هذه الوعود, وإذا كان الرئيس الأمريكي الذي حضر القمة وهو الذي تعهد في حملاته الانتخابية بإحداث تغييرات جذرية في السياسة الأمريكية والالتفات إلى قضايا الأمم المضطهدة كان قد حضر القمة, وهو الذي بدأ رحلته الطويلة لتغيير طبيعة العملية السياسية والاقتصادية الأمريكية، وتمكن من تحقيق طموحه ليصبح أول رئيس أمريكي أسود، وليظهر بذلك أهمية الدور الذي يمكن أن يلعبه السود على المسرح السياسي الأمريكي بانحيازهم إلى القارة السمراء على أقل تقدير, فهذه المحاولات وإن كانت مدروسة مسبقا لتحسين الصورة الأمريكية لكنها يجب أن تعد إيجابية, لذلك يجب على شعوب وحكومات ما سمي بدول العالم الثالث ومن ضمنها الحكومات العربية أن تستفيد من هذا الموقف الأمريكي الذي أوهنته القوى الاقتصادية الصاعدة بالضغط على العالم الغربي بتقديم المزيد من التنازلات, وفي الملف النفطي دعا القادة الدول المنتجة والمستهلكة إلى تحسين الشفافية وتعزيز الحوار فيما بينهم من أجل الحد من التقلبات المفرطة في الأسواق, وكما نعلم فإن ارتفاع أسعار النفط في 2008 قد انعكس سلباً على الاقتصاد العالمي وأسهم في الانكماش، واليوم فإن الاقتصاد العالمي في حاجة إلى إمدادات موثوقة بأسعار معتدلة, لا مرتفعة ولا منخفضةً, لأن ذلك قد ينسف إمكانات النمو الاقتصادي وقد يؤدي إلى تراجع الاستثمارات. قمة الثماني لم تكن مجرد محاولة لتبييض صفحتي أمريكا والدول الغربية اللتين اسودتا بما فيه الكفاية خلال العقود الماضية, بل من أجل قطع الطريق على المنادين أن هناك قوى جديدة من دول العالم الثالث أخذت تبرز وتنافس الدول الغربية وعلى رأس هذه القوى الصين وروسيا والهند, وحتى لا يتدهور الموقف ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي