من إفرازات النظام المالي العالمي.. الفساد والفقر والاحتيال

يجب ألا يقودنا الكلام عن النظام المالي العالمي الجديد إلى ما نشهده اليوم من تسيب ومن لا مسؤولية وفوضى وتخبط في الممارسات المالية والتجارية، حيث انعدام مقاييس تنظيم الأسواق والإجراءات التي تكشف الثغرات في المؤسسات المالية المتعثرة التي أخذت في الازدياد يوما بعد يوم, وبعد ثبوت فشل النظم الاشتراكية والرأسمالية في إعادة التوازن إلى النمو المالي العالمي إذ لم تكن الأعراف الاجتماعية قادرة على إيجاد الآليات التي تضمن عدم انسياق الناس وراء الأوهام في العروض المالية التي جعلتنا نفكر في وضع معايير جديدة للأخلاق التجارية, والشيء المؤكد هو أن القوانين القديمة التي وضعت عام 1944 يجب أن توضع في المتحف، حيث إن الكثير من قوانين النظام المالي الدولي للعالم وهيئات التقييم الائتماني استخفت كثيرا بالمخاطر الحقيقية للصفقات المالية والتجارية, فهل نستطيع القول إن الأخلاق التجارية هي انعكاس للواقع المالي المتأزم, ولنبدأ بالحديث عن الفساد الذي طال أجهزة الدول المتطورة والنامية على حد سواء وأخذ شكلا جديدا من حيث اتساع نطاقه وجر ضعاف النفوس إلى الرضوخ لإغراء المال حتى لو تطلب ذلك المحاباة والخروج على قواعد العمل أو القيم , لقد عرف الفساد الإداري على أنه استعمال لوظيفة عامة بجمع ما يترتب عنها من هيبة ونفوذ وسلطة لتحقيق منافع شخصية مالية وغير مالية, وإذا كان الاحتيال هو الاستيلاء على مال الغير بخداعه وحمله على تسليم ذلك المال فيترتب عليه وقوع المجني عليه في الغلط وإقدامه على تصرف مالي أوحى به إليه المحتال وجعله يعتقد أنه في مصلحته ومن شأن هذا التصرف تسليم مال إلى المحتال الذي يستولي عليه بنية تملكه, وبدل أن يقدم هذا النظام المالي العالمي المخيف والمعقد ذو السطوة مساعداته المالية لشعوب العالم الفقيرة فقد امتص ممتلكاتها دون خجل في الوقت الذي ارتفعت فيه الأصوات منذرة بنشر الفقر وتدمير اقتصادات الدول النامية. في فلسطين والعراق وأفغانستان كانت الشعوب وحدها المتضررة بعد أن تردت الأوضاع التي لم تكن بالجيدة, بينما اقتصرت الحلول إبان مثل هذه الأزمات التي سببها الفقر على تقديم الغذاء والخيام والإسعافات الأولية والتهرب من تقديم الحلول الجدية التي تنهض بالمستوى المعيشي لمواطني هذه الدول, ولو تم تقديم أي من المساعدات المالية البسيطة ضمن برامج منظمة ولو على هيئة صدقة لتجنب هذا النظام المالي غضب الله الذي لحق به. في مقابل كل ذلك يصعق المرء عندما يجد أن ثروات ثلاثة من أغنياء العالم بلغت ما يعادل الناتج المحلي لأفقر 48 دولة في العالم، كما أن ثروة 200 من أغنياء العالم تجاوزت نسبتها دخل 41 في المائة من سكان العالم مجتمعين, وتبرز كل هذه الأرقام الخلل الكبير الحاصل في تمركز رأس المال العالمي وهو خلل لا يمكن تجاهل تفاعلاته السلبية وما يترتب عليها من آثار وخيمة على البشرية, من هنا يأتي الحديث مجددا عن توزيع عادل للثروة في العالم، حيث تشبع الغربان والجراد ويجوع بني البشر, لكن الأمر الذي فاقم الأمور ودهورها نجد أنه أمام هذا الحجم من الفقر برزت مع الأسف صفقات الاحتيال بل ربما يكون الفقراء هم أول الضحايا بعد أن استغل البعض جهدهم وعرقهم الذي بذلوه طيلة سنوات عملهم, وبعد أمريكا وأوروبا انتقلت هذه التجربة إلى العالم العربي، حيث يسرق اللصوص الحرفيون مدخرات الطبقة الوسطى عبر الإنترنت أو حتى عبر الهاتف. وفي هذه الأيام برز اسم المدعو برنارد مادوف الذي فاق عدد ضحاياه ضحايا إنفلونزا الخنازير وخطورته بعد أن تزامن معه, هذا الرجل الذي أدار الصناديق الاستثمارية وأصبح أحد أهم الأسماء في مجال إدارة الأصول المالية والثروات, على الرغم من أن الطريقة التي استخدمها لعدة سنوات كانت مجرد طريقة تقليدية إذ كان يدفع للقدماء من المودعين ما يقدمه المودعون الجدد بأصول ودائعهم, وفي غياب الرقابة المالية والقوانين الرادعة التي أطاحت بمؤسسات مالية كبرى سابقة فقد كان النظام المالي الأمريكي بثغراته القانونية والإدارية المتاحة للجميع يعتبر هو الذي مكن مادوف من لعبته هذه، أما اليوم فهو يقاضيه. هذه القوانين والنظم يجب أن تراجع ويعاد النظر فيها, فبعد أن قدم مادوف إغراءاته الكاذبة لزبائنه وأعلن عن أسعار فائدة عالية راوحت بين 12 و13 في المائة، وذلك بغرض جذب رساميل إلى مؤسسته قبل أن يقوم بالاستيلاء عليها لحسابه الخاص دون استثمار فعلي لها بينما كان يعمد إلى الوفاء بالمطالبات المالية لعملائه من الودائع الجديدة الوافدة إليه, كيف استطاع هذا التكنيك البسيط أن يخترق القوانين المالية لولا كانت ضعيفة؟ لقد استطاع مادوف أن يدير عملياته الاحتيالية مستغلا بذلك الثقة التي كان يتمتع بها اسمه ومنصبه والتي أدت إلى المزيد من الألاعيب والصفقات الوهمية, ولولا الأزمة المالية الحالية لاستمر مادوف في نصبه واحتياله دون أن يكتشف أمره أحد من عملائه ولا حتى سلطات البورصة وأسواق المال الأمريكية. وإذا كان لكل معضلة مهما كانت جوانب إيجابية فإن الأزمة المالية العالمية قد كشفت مادوف ونأمل أن تكشف آخرين, فبعد أن انهار مصرف «ليمان براذرز» وبدأت أزمة السيولة في الظهور لجأ عملاء مادوف إليه لسحب أموالهم لمواجهة الأزمة المستجدة ففاجأهم بعدم وجود غطاء مالي يكفي مطالباتهم المالية, وفي حين قال محامي عدد من ضحاياه إنه من الخطأ الاعتقاد أن جميع المستثمرين لدى مادوف كانوا من الأثرياء لأن عددا كبيرا منهم كانوا من المتقاعدين ومن الناس العاديين, وهذه هي الطامة الكبرى لأنه لا ذنب لهؤلاء الفقراء أن يدفعوا ثمن أخطاء غيرهم من الأثرياء. وبلغت جملة عمليات الاحتيال هذه بحسب البيانات الرسمية الأمريكية نحو 50 مليار دولار, فعملياته هذه التي وصفت بأكبر احتيال في التاريخ، حيث لم تعرف البورصات العالمية فضيحة بهذا الحجم التي طالت الجميع والتي سقط بسببها مجموعة من أغنى وأقوى رجال العالم ومؤسساتهم إلى جانب متوسطي الحال, فحكم العقوبة القصوى بحبسه 150 عاما، وإن كان قد أثلج صدور ضحاياه فهو أيضا رسالة واضحة المغزى لكثير من مجرمي المال والمحتالين حول العالم الذين لم يكشف أمرهم بعد, السؤال الذي يفرض نفسه, هل يوجد من هم على غرار مادوف بيننا في مجتمعنا العربي الخليجي والمسلم؟ إذا صعبت الإجابة عن هذا السؤال فإن أروقة المحاكم كفيلة بالإجابة، حيث تكشف حجم المتضررين من المعاملات العقارية والتجارية التي تكشف الغبن الذي لحق بهم - النظام المالي العالمي الجديد لا يزيد عن كونه نظام فساد وفقر واحتيال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي