هل البنوك الإسلامية قادرة على إصدار الائتمان؟

أدت العلاقات الوطيدة والمتشابكة بين القروض والودائع إلى بروز مدرستين حول صك العملة أو إصدار الائتمان فيالبنوك. المدرسة الأولى تعتقد أن المصارف لا تصدر ائتمانات جديدة، ولكن الودائع هي التي تسمح بتوفير القروض؛ وأما المدرسة الثانية فإنها تعتقد أن توزيع القروض هو الذي يؤدى إلى إضافة ودائع جديدة وأن ثمة بالفعل إيجادا للائتمانات.

البنوك لا تصدر ائتمانات جديدة..
تعتبر المدرسة الأولى أن البنوك لا تصدر ائتمانات جديدة وأنها لا تقوم إلا بتوزيع الادخار الموجود مسبقا أي أنها لا تستطيع أن تـقرض إلا مما توفر عندها من الأموال. وعليه فإنه يتعين على البنوك التى ترغب في صناعة منتج تام أى القروض، أن تتوفر قبل كل شيء على المواد الأولية أي الودائع. ولهذا، يقال إن الودائع هي التي تسمح بتقديم القروض. ويعتبر أصحاب هذه المدرسة أن البنوك التي توزع القروض تقوم بذلك على فترات متساوية مع فترات الادخار، فالمادة الأولية التي تستخدم لتمويل القروض على المدى البعيد والمتوسط يجب في العادة أن تأتي من مصادر مخصصة للبقاء لفترة طويلة. لكن من الواضح حسب التجربة الميدانية أن الادخارات المخصصة لفترات طويلة أقل حجما من الاحتياجات للاستثمارات الطويلة.

.. لكن البنوك تحول السيولة وتمدد آجالها
من المعروف أن المُودِعين يبحثون في كل وقت عن سيولة ودائعهم، في الوقت الذي يبحث المقاولون عن أموال لتمويل أشغالهم على المدى البعيد، وتبين من خلال الممارسة أن المصارف التي تجمع مدخرات على المدى القصير يمكنها أن تقدم قروضا على مدى أبعد, اعتمادا على استقرار هذه الودائع. وبذلك يمكن القول إن تمديد الفترة الزمنية لاستحقاقات السيولة سيلبي بشكل متزامن طلبات هؤلاء وأولئك من خلال تعديل حاجيات العملاء ليس بشكل جامد وإنما بشكل ديناميكي.
يقوم المصرفي الذى يتاجر في صناعة التمويل، بعملية تحويل للمواد الأولية، المتمثلة بمختلف الودائع، إلى منتجات نهائية متمثلة في أنواع التمويلات. وهذا التحويل للسيولات أو تمديد آجال الودائع هو عبارة عن ما استخدم من الإدخار السائل للتمويلات الطويلة المدى أي التمويلات غير السائلة.
وصحيح أنه عندما يقوم مصرف بإقراض مؤسسة، مستخدما موارد قصيرة المدى، فإنه يسمح لنفسه بتوفير ائتمان للوفاء بالتزماته تجاه هذه المؤسسة ولا يمكن اعتبار تحويل هذه السيولة إلا أنه نتيجة لظاهرة إيجاد ائتمان جديد.
البنوك تصدر الائتمان من لا شيء
الواقع أن المصارف تملك قدرة فائقة على إصدار ائتمانات أي على صك عملة من لا شيء, ويمكن أن نميز بين نوعين من إصدار العملات: عملة المصارف الوسيطة, وعملة البنك المركزي. يتم إصدارعملة المصارف من قبل المصارف التجارية ويجب أن تكون عملة مصرفية حسابية أي أنها لا تظهر إلا بواسطة رصيد حساب عميل غير مالي. أما عملة البنك المركزي فيصدرها البنك المركزي وهى على نوعين: عملة مركزية نقدية (ورق ومعدن) وعملة مركزية حسابية، ويتم تداول المركزية النقدية بين الوكلاء غير الماليين بينما يتم إصدار المركزية الحسابية من قبل الوكلاء الماليين من أجل تسديد العمليات فيما بينهم.
تعتقد المدرسة الثانية أن المصارف تقوم بإصدار ائتمانات وتوزيع تمويلات لا تستند إلى أي مصادر موجودة مسبقا أي أنها يمكن أن تقرض ما لا تملك. فحتى عندما لا تملك المصارف موارد، فإنها تمنح قروضا من خلال عرض ائتمانات جديدة؛ فهي توفر العملة التي تقرض من خلال تحويل أصول غير نقدية إلى أصول نقدية، من أجل إصدار ائتمان جديد، يقوم المصرف بتسجيل قرض في جانب الأصول من أجل إيجاد إيداع جديد بنفس المبلغ, يسجل هو الآخر, في جانب الخصوم. وبالتزامن مع ذلك، تسجل الميزانية العامة للمصرف زيادة في الأصول ممثلة بالأصول غير النقدية وزيادة في الخصوم ممثلة بالودائع التي وضعت تحت تصرف العميل، وبذلك، تحول المصارف أصولا غير نقدية إلى موجودات تحت الطلب لديها صفة الأصول النقدية.
وبهذا، فإن المصارف الربوية يمكنها أن تقدم قروضا من العدم, دون أن تكون لديها مادة أولية مسبقا. فهي تعرف أنها ستحصل على الموارد الضرورية وأن السوق النقدية ستوفر لها الحاجيات من السيولة وأنه في أقصى الأحوال، سيقوم البنك المركزي بتوفير السيولة الضرورية للنظام المصرفي من أجل تحقيق التوازنات. لهذا، فإن المصارف الربوية لا تقدم تسهيلات تمويلية انطلاقا من السيولة المتوفرة لديها، بل تحصل على السيولة انطلاقا من إنشاء التزامات جديدة. وعليه, فإن القروض هي التي تجر إلى توفير الودائع.

ماذا عن البنوك الإسلامية؟
البنوك الإسلامية تصدر ائتمانات.. لكن
البنوك الإسلامية كغيرها من البنوك لديها سلطة إصدار ائتمانات خاصة أنها توفر، علاوة على الحزمة شبه النقدية (الودائع الاستثمارية المقيدة)، حزمة نقدية كالودائع تحت الطلب. وبما أن الائتمان هو دين أو التزام على مصرف وكون الودائع يمكن أن يتم تداولها بكل حرية ويمكن أن تسدد الالتزامات، يشكل هذا أيضا ائتمانا يمكن للمصارف الإسلامية أن تصدره من خلال منح الزبون القدرة على إصدار شيكات.
يتم إصدار ائتمان عندما يشتري مصرف أصولا غير نقدية، حقا عينيا أو شخصيا من وكيل غير مالي وتنقل قيمة هذه العملية إلى رصيد حساب ذلك الوكيل, وبذلك، يوجد المصرف التزاما على نفسه لصالح المقترض.
#2#
مثال على إصدار ائتمان من خلال عملية المرابحة
يقوم بنك إسلامي بشراء أصول عينية ممثلة بحق في الملكية (بضائع على سبيل المثال) من تاجر (أ) يملك حسابا لديه ويبيع هذه الأصول العينية لشخص آخر (ب) يملك هو الآخر حسابا في المصرف ذاته. ولتسديد الدين الناجم عن هذه العملية، يصدر المصرف الائتمان الضروري من خلال مجرد عملية تسجيل، بإضافة المبلغ إلى حساب (أ) وخصم نفس المبلغ من رصيد حساب (ب).
ونلاحظ أن المصرف الإسلامي يملك القدرة على أن يصدر من لا شيء سندات ديون لتسديد الالتزامات. وبشرائه للبضاعة من التاجر (أ)، فإن المصرف يبيعه أصلا أوليا متمثلا في وديعة وببيعه البضاعة للتاجر (ب)، فإنه يشتري منه أصلا ماليا متمثلا في المديونية التجارية.
صحيح أن إصدار هذا الائتمان يبقى مؤقتا لأن المصرف الإسلامي الذي أصدر الائتمان لصالح البائع يقوم بمحو نفس الائتمان بعد تسديده من قبل المشتري.
والمعروف أن تحويل الأصول من قبل المصارف لا يكون إصداراً ائتمانيا نهائيا إلا إذا تجاوزت القروض الجديدة تسديدات الديون الحالّة. ونعرف أن كل مصرف يملك احتياطات زائدة يمكنه أن يقدم قروضا جديدة تؤدي إلى إيداع مكثف في المصارف يؤدي بدوره إلى فائض جديد من عملة البنك المركزي كفيل في حد ذاته بتوفير قروض جديدة وهكذا دواليك. وهذا هو المبدأ المعروف بمضاعف القروض.
وحتى لو صدقنا الفرضية القائلة إن المرابحة لا تؤدي إلى إصدار ائتمان نهائي، فإنه من الملاحظ أنها يمكن أن تزيد سرعة تداول الكتلة النقدية, وهو ما يسهم حسب أطروحات النظرية النقدية في زيادة التضخم.
البنوك الإسلامية لا تصدر ائتمانات
يعتقد البعض أن المصارف الإسلامية لا تصدر ائتمانات, فهي لا تقوم سوى باستخدام مواردها الخاصة وودائع زبنائها أي أنها تستخدم ادخارا موجودا مسبقا ولا تصدر ائتمانات جديدة.
ولما كانت المصارف الإسلامية لا تستطيع أن تعيد تمويل نفسها بالسيولة التي تحتاج إليها، من السوق النقدية أو من البنك المركزي، بواسطة الفوائد، فإنها ملزمة قبل تقديم قرض, أي قبل إصدار ائتمانها الخاص, أن تراعي مواردها المتوفرة.
وعند تقديمها تمويلا جديدا، أي إعطاء وسائل للتسديد إضافية للمستفيد، يتعين على المصارف الإسلامية أن تتوفر دوما على السيولة الكافية للاستجابة لطلبات من يملك هذا التمويل وللاستجابة للمتطلبات النظامية. وبالنظر إلى المخاطرة التي قد تتعرض لها في حال سحب كبير للودائع، فإن المصارف الإسلامية يجب أن تكون قادرة على تلبية طلبات المودعين؛ لذلك يتعين عليها أن تحتفظ بجزء من الودائع على شكل سيولة وجزء آخر على شكل أصول قابلة للتسييل.
وبما أنها لا تستطيع اللجوء إلى إعادة التمويل، فإن المصارف الإسلامية يتعين عليها أن تغذي بنفسها حسابها في البنك المركزي من خلال الموارد التي تتوفر عليها بدفع الأوراق النقدية و/أوعن طريق حساباتها الدائنة في المصارف الأخرى.
وبالطبع، فإنه من الصعب التمييز الواضح بين الموارد الناجمة عن إصدار ائتمانات جديدة، وتلك الناجمة عن ادخار حقيقي تعيد البنوك توزيعه؛ مع أننا نعرف أن إعادة التوزيع التي تنفذها المصارف يمكن أن تكون ائتمانا بالنسبة للنظام المصرفي في عمومه.
ولذلك، فإنه حتى عندما ييصدر المصرف الإسلامي ائتمانا استباقا لوجود إدخار حقيقى أو ناجم عن المصارف الأخرى، فإن قدرته على إصدار ائتمانات تبقى أقل بكثير من البنوك الربوية.
والخلاصة أن المصارف الإسلامية يمكن أن تصدر ائتمانات، إلا أن هذا الائتمان المؤقت أو النهائي تعيقه ثلاثة عناصر: طلبات السيولة من طرف المودعين - متطلبات الاحتياطيات الإلزامية ـ وخصوصا استحالة إعادة التمويل.
وصحيح أن المصارف لا يحفزها على الاعتدال، عندما تقدم المساهمات للعملاء، إلا إذا هدد البنك المركزي بعدم الحصول على إعادة التمويل لاحقا. ومن هذا المنظور، فإن البنوك الإسلامية تعرف مسبقا عدم إمكانية إعادة التمويل مما يحملها على نهج سياسة قويمة من ناحية حسن تسيير السيولة.
ولذلك يجب على البنوك الإسلامية أن تحتفظ بصفة دائمة على نسبة سيولة تفوق تلك الضرورية في البنوك الربوية. ومن غير شك, أن تعطيل هذه السيولة يخفض ربحية البنك الاسلامى. ولعل عدم التوسع في استخدام المشتقات وما ينجم عنها من منتجات مالية وهمية مهيكلة, وعدم إمكانية إعادة التمويل في الأسواق المالية كانا من أسباب إنقاذ البنوك الإسلامية من الأزمة المالية، على الرغم من أنها استنشقت بعض غبارها. ورب ضارة نافعة.

* خبير بنوك إسلامية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي