إفلاس "جنرال موتورز" .. دوام الحال من المحال!

يخطئ من يعتبر انهيار "جنرال موتورز" من قبيل المفاجأة .. نعم ينبغي إلا يكون من قبيل المفاجأة، على الأقل بالنسبة لخبراء وعلماء الاقتصاد، خاصة دارسي الفكر والتاريخ والتطور الاقتصادي. فـ "جنرال موتورز" ليست إلا رمز لكيان نشأ وتطور وترعرع وتضخم ونضج، ثم ما فتئ أن أصابه العجز والوهن، بعد أن قوي منافسوه، فبدأ رحلة الأفول، ليسلم الدفة للمنافسين الجدد. هذه سنة الله في خلقه وفي كونه، ومن لم يحسن قراءة السنن الكونية، يفشل في وضع التصور أو التقييم الصحيح للظواهر والأحداث. فمن جد وجد، ومن زرع حصد، وإلا فتكون المبادئ السماوية محل شك كبير، وحاشا لله أن تكون كذلك.
"جنرال موتورز"، هي مجرد رمز لقوة اقتصادية، سحب منها البساط تدريجياً، لتحل محلها قوىً أخرى باتت أشد بأساً وقوة، "وتلك الأيام نداولها بين الناس" (آل عمران 140). إلا أن تداول الأيام بين الناس والأمم لا يأتي عبثاً أو عشوائياً، ولكنه يحدث نتيجة لاجتهاد وسعي البعض في مقابل تكاسل وترنح وغرق البعض الآخر في المفاسد والملذات بعد أن أعماهم النعيم. فالتاريخ خير معلم، أين الفراعنة والفينيقيون؟ أين الفرس والروم؟ أين إسبانيا والبرتغال؟ أين فرنسا والإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس (بريطانيا العظمى)؟ بل أين دولة الإسلام الكبرى، التي امتدت من أعماق الصين وإندونيسيا شرقاً إلى الأندلس غرباً وإلى فيينا شمالاً؟ أين كل هؤلاء؟
إن الأزمة العالمية الراهنة، وما صاحبها من انهيارات تقدم أبلغ الدروس والعبر، لتُذكِر الجميع بأن عجلة الزمن لا بد أن تستمر في الدوران، لتصعد أمم وشركات، ويخبو نجم أمم وشركات، وأن ما حدث أخيرا لم يكن في حقيقة الأمر أكثر من مجرد إعلان وفاة المريض، لأنه يرقد على فراش المرض - في غرفة الإنعاش - منذ سنوات، وموت المريض لا يعني نهاية العالم، ففي لحظة موته، قدِم إلى الدنيا الملايين، لتستمر رحلة الحياة والموت، الصعود والهبوط، وهذا هو ما يجعل لهذه الحياة معنى أو طعما، وإلا لكانت مللا في ملل، بل لو دام الحال لدولة أو لإنسان، لمات الأمل والطموح في صدور الطامحين المجدين، ولما كانت هناك حاجة للاجتهاد والابتكار، بل لما كانت هناك حاجة أو معنى للجنة أو النار. إذاً من جد وجد، سواء في الدنيا أو في الآخرة.
وإذا طبقنا الفلسفات المشار إليها أعلاه على صناعة السيارات العالمية، فقد شهدت هذه الصناعة تطورات وتحولات كبرى خلال نصف القرن المنقضي، سواء بالنظر إلى أحجام الإنتاج أو كبار المنتجين. فكما يوضح الجدول (1)، ارتفع إجمالي الإنتاج العالمي من السيارات من نحو 10.6 مليون سيارة عام 1950م، إلى أكثر من 73.1 مليون سيارة في نهاية 2007م. الملاحظة الأساسية من الجدول (1) تتمثل في تراجع حصة الولايات المتحدة - تراجع حاد - خلال الفترة من 1950م وحتى 2007م، من نحو 75 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي إلى نحو 14.7 في المائة في نهاية عام 2007م. كما أن من أبرز التحولات في عالم هذه الصناعة، أنه بدءا من عام 2006م، تربعت اليابان على قائمة أكبر الدول إنتاجاً للسيارات (بالنظر إلى عدد الوحدات)، وأزاحت الولايات المتحدة التي ظلت متربعة على عرش هذه الصناعة منذ كساد الثلاثينيات وحتى نهاية 2005م. كما أنه بنهاية عام 2006م، اعتلت شركة تويوتا اليابانية قائمة أكبر الشركات إنتاجاً للسيارات في العالم بعد أن أزاحت شركة جنرال موتورز التي ظلت متربعة طوال العقود الماضية.
إجمالي الإنتاج العالمي من السيارات بمختلف أنواعها (بالمليون وحدة)، وحصة الولايات المتحدة من إجمالي الإنتاج (%).
2007 2006 2005 2002 1999 1991 1971 1961 1950
73.152 69.127 66.480 58.973 54.948 47.283 33.401 15.200 10.577 العالم
14.7 16.2 17.9 21 24 19 32 44 75 حصة الولايات المتحدة
المصدر: إحصاءات الاتحاد الأمريكي لمصنعي السيارات (البوابة الإلكترونية).
كما أنه بعد أن كانت مساهمة قطاع تصنيع وتوزيع السيارات في الولايات المتحدة في الناتج المحلي الأمريكي تدور حول 5 في المائة خلال التسعينيات، تراجعت إلى 3.1 في المائة عام 2006م، ثم إلى 2.3 في المائة عام 2008م. بل لقد تراجعت حصة الشركات الأمريكية الثلاث (جنرال موتور وكرايسلر وفورد) من السوق الأمريكي من 70 في المائة عام 1998 إلى 53 في المائة عام 2008م لحساب السيارات المستوردة، خاصة القادمة من اليابان. ترتب على تلك التحولات تصاعد مديونيات شركة واحدة وهي جنرال موتورز إلى أكثر من 170 مليار دولار قبل أن تشهر إفلاسها.
وفي الحقيقة، لم يكن بإمكان شركات السيارات الأمريكية خفض التكلفة، من خلال اللعب على وتر الأجور مثلاً، أو المزايا المقدمة للعمال، نظراً لاحتمائهم بنقابات عمال قوية. وفي المقابل فإن الوضع مختلف في باقي أسواق الإنتاج، وخاصة في اليابان ودول شرق آسيا، وهو ما عمق من إضعاف الوضع التنافسي للشركات الأمريكية. فقد تمكنت تلك الدول من بناء قواعد تصنيع قوية قادرة على منافسة الشركات الأمريكية، ليس فقط في السوق العالمي وإنما داخل السوق الأمريكي. وفي ظل الظروف التي يمر بها المواطن الأمريكي، كان من الطبيعي أن يتوجه لشراء السيارات القادمة من الصين وكوريا واليابان وهي الأقل سعراً والأقل استهلاكاً للوقود الذي تضاعفت أسعاره.
حدث كل هذا، لتستمر عجلة الزمن في الدوران، فتغيب الشمس عن بلدان لتشع بنورها على بلدان أخرى، أعدت واستعدت، وهكذا دواليك، وكانت الشركات (متعددة الجنسية) الأمريكية والغربية (على النحو الذي عرضنا له في مقال سابق) أحد أهم أدوات إنجاز هذا التحول التاريخي. فكبريات الشركات الأمريكية الثلاث معروضة للبيع لشركات اعتمدت في الأساس على خبرات تلك الشركات المتداعية. إذاً علينا ألا نجزع وألا نفزع من عملية التحول تلك، فإذا كنا نقبلها على أنفسنا (الموت والحياة) فلما لا نقبلها على الأشياء؟ بل إنها فرصة تاريخية لتعلم الدروس وأخذ العبر، واليقين التام بأنه ليس هناك أمم خلقت لتتسيد وأخرى خلقت لتستعبد، وأننا كعرب بإمكاننا أن نصبح فاعلين في هذا العالم، فقط إذا أعددنا العدة وأعلينا من شأن العلم وأهله، وأن نجسد عظمة ديننا في أقوالنا وأفعالنا، عندها سيأتي دورنا لقيادة العالم من جديد. فعلى الرغم من الآلام التي سببتها الأزمة - وما جنرال موتورز إلا مثال - إلا أنها تعطينا الأمل في غد أفضل، فقط إذا أعددنا له، فهل نتعلم الدرس ونعد العدة؟ تحياتي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي