الوحدة النقدية الخليجية .. إلى أين؟
لا يزال الحلم الخليجي بكيان سياسي واقتصادي على غرار الاتحاد الأوروبي يراود الخليجيين على الرغم من العقبات والعثرات التي تحول دون إقامة كثير من المشاريع الخليجية الكبرى منذ نشأة مجلس التعاون الخليجي أوائل الثمانينيات فما زال الطريق للوصول إلى ما وصل إليه الاتحاد الأوروبي طويلا, غير أن التطورات السياسية والاقتصادية المتسارعة إقليميا وعالميا فرضت تحديات على دول الخليج تجاه الإسراع في وحدتها السياسية والاقتصادية، فهل يحق لنا التحدث عن نظرية حرق المراحل في الواقع الخليجي حتى نسرع العملية الوحدوية ونعجل بإقامة السوق الخليجية المشتركة؟ إن العملة الخليجية الموحدة في ظل اقتصادات قوية ستحسن الموقف التفاوضي الخليجي إزاء التجمعات الاقتصادية المختلفة كما أنها ستساعد على تحسين الاستفادة من الموارد وتقليل مخاطر تقلبات العملة على اقتصادات دول المجلس, لقد كانت قضية عدم توصل الخليجيين إلى عملة موحدة وكذلك تعريفة جمركية موحدة وما زالت تعتبر من المبررات التي يسوقها الأوروبيون في مباحثاتهم مع الجانب الخليجي ضمن الاجتماعات الدورية للحوار الخليجي - الأوروبي، وفى القمة الخليجية الأوروبية التي عقدت في تشرين الأول (أكتوبر) 2000, طرح الخليجيون قضية الضرائب التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على البتروكيماويات والصادرات الخليجية من الألمنيوم وضرورة فتح الأسواق الأوروبية أمام المنتجات الخليجية, في حين كان الأوروبيون يتعللون بأن دول الخليج لم تتوصل إلى تعريفة جمركية موحدة ولا إلى عملة موحدة، حيث إن موضوع اتفاقية التجارة الحرة الخليجية -الأوروبية سيسهم في تكثيف العلاقات ودفع الاستقرار في المنطقة كون منطقة الخليج تتأثر بصورة مباشرة وغير مباشرة بالصراع العربي - الإسرائيلي شئنا أم أبينا, على أن الاتحاد الأوروبي عقد اتفاقيات تجارية حرة مع عدة دول منذ زمن طويل، كما أن مجلس التعاون الخليجي له أيضا عديد من الاتفاقات, وتبقى خيارات دول المجلس واسعة في جميع الاتجاهات سواء في دول الشرق أو حتى الغرب, وهذا ما يجعل الاقتصاديين الخليجيين يرون أن وضع استراتيجية واضحة للاتحاد النقدي الخليجي سيساعد دول المجلس على حسن التفاوض مع الاتحاد الأوروبي، حيث ستتمتع العملة الموحدة بميزة قوة الاقتصادات الخليجية مجتمعة، وحيث إن الأوضاع الاقتصادية المواتية التي تعيشها دول المجلس تحمي عملاتها من أي ضغوطات بفضل ما يتوافر لهذه العملات من احتياطيات, وبعد أن اتفقت دول المجلس على اختيار الدولار الأمريكي كمثبت مشترك على الرغم من إخلال الكويت بالاتفاق والتخلي عن ربط عملتها بالدولار, حيث إن اختيار الدولار كمثبت مشترك مرده إلى تركيبة الاحتياطيات النقدية لدول المجلس فضلا عن أن التجارة الخارجية الخليجية تقوم بالدولار, كما ستسهم العملة الموحدة في جذب الاستثمارات الأجنبية إلى المنطقة، حيث ستشكل الدول الأعضاء إقليما استثماريًّا واحدًا تتوافر فيه عوامل جذب متعددة تسهم في اجتذاب المستثمرين الأجانب, وإذا كانت الجهود الرامية إلى التوصل إلى عملة موحدة للدول العربية الخليجية ما زالت تواجه عقبات أكبر حتى بعد القرار المصيري الذي اتخذ أخيرا لكي يصبح مقر البنك المركزي الإقليمي في السعودية وهو القرار الذي أزال عقبة واحدة أمام الوحدة النقدية ولتجنب عقبات جديدة قد تؤخر أكثر الوحدة النقدية التي كان مقررا لها في الأصل, واستحقاق السعودية نابع من تمتعها بثقل سياسي واقتصادي كبيرين يؤهلانها أكثر من غيرها إلى أن تقود المنطقة إلى بر الأمان ويجب على بقية الأعضاء إعطاؤها الدور التاريخي الذي تستحقه باعتبارها تتمتع بملاءة مالية كبيرة واحتياطات نقدية ساعدتها على تجاوز تداعيات الأزمة العالمية بسلام وهذه الملاءة يمكن أن تكون سندا مستقبليا للبنك المركزي الخليجي خصوصا في أوقات الأزمات, في حين يثبت الجانب الاقتصادي أن اقتصاد السعودية من أكبر الاقتصادات العربية والتي تمر من خلاله أضخم التبادلات التجارية ويعد اختيارها ضمن الاقتصادات العشرين الأكبر تأثيرا في العالم تأكيدا على ذلك، وحيث إن اختيار الرياض مقرا للبنك خطوة ضرورية من الناحية الفنية أيضا في إطار تسريع استكمال مصادقة الدول الأعضاء على اتفاقية الوحدة النقدية، فإن هذه الخطوة مهمة للبدء في إنشاء مؤسسات الاتحاد النقدي التي تمهد لإقامة المجلس النقدي المعني بإدارة مشروع الاتحاد النقدي, وباختصار فإن ما تتمتع به المملكة إقليميا وعالميا كان وراء ترشيحها وبقوة لتكون الأصلح والأفضل أن يكون مقر البنك المركزي على أراضيها.
لكن في الوقت الذي تقف فيه بعض التشريعات الخليجية عائقًا أمام تنقل الاستثمارات الخليجية بين الدول الأعضاء، حيث لا تزال قوانين بعض الدول تمنع دخول الخليجيين أسواق المال وتصنفهم على أنهم أجانب, والأمر أيضا ينطبق على تملك العقارات, حيث إن من أبرز تلك الأمور العالقة هو موضوع الرسوم الجمركية كما أسلفنا والتي سيساعد اعتماد عملة موحدة لدول الخليج على احتساب تلك الرسوم بسرعة أكبر وتقليص الفروقات المالية التي تحتسب عند صرف قيمة تلك الرسوم وتحويلها إلى عملة خليجية أخرى, وحيث إن معظم الخطوات الخاصة بالوحدة النقدية قد استكملت وأن دول المجلس تقترب الآن من مرحلة اتخاذ القرارات السياسية لوضع ما تم الاتفاق عليه موضع التنفيذ تساعدها في ذلك الظروف الاقتصادية المواتية للدول الأعضاء وفي مقدمتها التحسن في الاحتياطيات النقدية الخليجية لأنها تشكل أساسا قويا للوحدة النقدية, كما أن سيطرة دول المجلس على العجوزات في الميزانيات الحكومية فضلا عن تحسن موازين المدفوعات ستساعد دول المجلس بلا شك على المضي قدما في برنامج الوحدة النقدية دون إبطاء, كما أن التعاون النقدي يمثل إيضاحات تحليلية لأبعاد الوحدة النقدية بالصيغة التي تم الاتفاق عليها وأن التشريعات والهياكل التنظيمية المتصلة بالوحدة النقدية ستسبق عملية إصدار الوحدة النقدية الخليجية الموحدة, بناء على هذه المعطيات فإن المرء يود الإشادة بالحرص الذي تبديه جميع دول المجلس دون استثناء تجاه الالتزام بالجدول الزمني الموضوع للوحدة النقدية الخليجية وإن ظهرت بعض الخلافات هنا وهناك فهذا أمر طبيعي وما يهمنا هو تجاوزها وليس التباكي عليها, لأن هذا حصل حتى في المؤسسات الإقليمية الناجحة كالاتحاد الأوروبي , فعلى الدولة المعترضة أو المتحفظة مثلما فعلت الإمارات تجاه اختيار الرياض مقرا للبنك الخليجي ألا تعرقل المشروع المتفق عليه وهو الوحدة النقدية والمجلس النقدي والبنك المركزي المشترك وأن تدعم ما اتفق عليه أشقاؤها استنادا إلى ما تقتضيه المصلحة المشتركة، لكن انسحاب الإمارات باعتبارها ثاني دولة خليجية تنسحب من خطة الوحدة النقدية لدول مجلس التعاون بعد عمان يجب ألا يعد انتكاسة لمشروع الوحدة النقدية فهو ينطوي أيضا على خسارة للإمارات نفسها لأنها ستفقد الميزة التنافسية التي يتيح لها الانضمام لكتلة موحدة, ويبقى الأمل معقودا على الدول الأربع المتبقية ويجب ألا تقف عجلة التاريخ, فهذا الوضع شبيه بخروج بريطانيا من مشروع "اليورو", ولأن الوحدة النقدية وما قد يصيبها ستكون انعكاساتها على جميع الدول الأعضاء وشعوب المنطقة كلها، فهناك شروط وقواعد يتعين على السلطات النقدية الخليجية اتخاذها قبل التوصل إلى العملة الموحدة أهمها: وضع جدول زمني مدروس يحدد الخطوات التمهيدية الواجب اتخاذها لتحقيق هدف الوحدة وتهيئة اقتصادات دول المجلس وزيادة قدرتها على التكيف مع التطورات الاقتصادية الإقليمية والعالمية وكذلك تحديد الالتزامات التي يتوجب على كل دولة من الدول الأعضاء الوفاء بها كي تتأهل دول المجلس كافة إلى الاتحاد النقدي ومن أبرز هذه الالتزامات رسم حد أقصى للتضخم وهامش مشترك لمعدلات الفائدة ونسبة عامة للدين الحكومي من الناتج المحلى الإجمالي, الوحدة النقدية هي إحدى الخطوات المهمة لإصدار العملة الخليجية والتي ستسهم في حل كثير من الأمور الاقتصادية العالقة, والتي ستجعل دول المنطقة تتعامل من موقع القوة مع بقية دول العالم كتكتل اقتصادي نفطي ذي نفوذ عالمي يستطيع التفاوض ويستطيع أن يفرض شروطه.