قاهرُ اليتيمِ..
.. لم يكن سائغاً أن أغفل عن أكثر من مائة رسالة وصلت بريدي تباعا، وكأن نافذةً فُتحت فهبت إلى الداخل أكوامٌ من الرسائل .. كلها تتكلم عن موضوع واحد، وتطالبُ بموضوع واحد .. كلها تقول لي : اكتب عن المرفق!
كيف أستطيع ألا أكتب؟ ورسالة مثل التي وصلتني من أحمد السهيلي تقول: "أرجوك ضع قلمك عن أي موضوع غير هذا الآن.. أرجوك". ورسالة صابرين من المدينة:"من أجل ربنا وبحقه علينا سخر كلماتك القادمة لهذا، وإلا لن أنام، ولن أسامحك أمام الله..".
أما المرفقُ في كل رسالة من هذه الرسائل الإلكترونية مقطع من فيلم موجع، وأوجعني أني تعرضت للتعذيب المرئي مرات، لأن بعضهم يقول لي استحلفك بالله أن تفتح المرفق وتتابعه حتى النهاية، لا أدري إن كان ذنب سيلحقني لو لم أفعل .. ولكني كل مرة رغم ألمي .. أفعل.
أما المرفقُ فهو مقطعٌ مسجَّلٌ شاع على اليوتيوب، وسُجِّل بآلة تصوير هاتفية، لمدرسٍ يعاقب يتيماً في معهد داخلي للأيتام ويسِيمه العقابَ والإهانة.. مقطعٌ مصوّرٌ يعصر القلبَ، ويجففُ مآقي الدمع .. ويجرح وجودَك الإنساني، ويفقدك الأمانَ في ذاتك.. لتعلم حينها يقيناً أن بعضَ القلوب حُجـِبـَتْ حتى عن أنوار تعاليم السماء .. فلم تعد إلا كائنات مقدودةٍ من الشراسة وتبلد الإحساس على الأرض.
ومن الجهة الأخرى تشرق الشمس .. فهؤلاء الذين راسلوني، لا بد أن مثلهم وأكثر عدداً راسلوا الكتـّابَ الآخرين، ولا بد أن أضعافا مضاعفة لم تفعل ولكنها تضامنت وتساندت ضد طغيان القسوة، وجبروت التوحش، والبعد عن أقرب معاني الإنسانية، بله دواعي الدين والتدين .. وهذا يؤكد أن أكبرَ رقيبٍ على الأعمال المشينةِ والدنيئةِ هم الناس. يا أيها المتوحش، ملايين العيون تصب عليك نارَ غضبها.. فهل تتأمل؟ هل تستطيع المواجهة؟ هل تنام الليل؟ ماذا جنت يداك، ليس على اليتيم، بل عليك أنت، على وجودك؟ أعلـَمُ أنك لم تعد تنام الليل ولا تهنأ في نهار.. وهذا عقابٌ فوق كل عقاب. إنه درسٌ كبيرٌ عندما تكون عيونُ المجتمع هي الرقيب، وهي الكاشفة، وهي الفاضحة لكل خللٍ معيب، فإن الضالـّينَ الحمقى القًُساة السيئين، سيحسبون آلاف المرات قبل أن تسوِّل لهم أفكارٌ خبيثة باقتحام عوالم الجرم والساديّة..
والعالمُ كله متفق على أهمية العناية باليتيم، كل دولةٍ تقيم اعتبارا خاصا لهذه الفئة، بل إن الفكرَ والأدب العالمي يقوم على أبطالٍ من الأيتام، "هيرونو" الياباني بطل الحرب لقيطٌ نصر بلده بشجاعةٍ متناهية فصار من أعظم الشخصيات المحبوبة، وبطلا من أبطال الأمّة، و"أوليفر تويست" قد يكون أشهر يتيم في الآداب العالمية، وأكثر الكتب مبيعاً في التاريخ، ويقال إنه أكثر من نال تعاطفاً وذُرفت من أجله الدموع عبر السنين. ويتيم "مارك توين" الأشهر "توم سوير"، و"آن شيرلي"، "وهومر ويلس".. بل إن ما يقرأه الأطفالُ في العالم من الثلاثينيات حتى اليوم، ثم ظهرت على أفلام هوليوود من قصص الأبطال الجبابرة مثل الرجل العنكبوت، والرجل الوطواط، وسوبرمان، والشبح هم من الأيتام .. وأشهر بطلين خياليَيْن أنجبهما الفكرُ البريطاني للعالم، وهما "جيمس بوند"، و"هاري بوتر" يتيمان.
والأدبُ العرب، كما يقول الفكرُ الاستشراقي من أكثر الثقافاتِ التي احتفلت بفكرة اليتيم، و"جوته"، و"برنارد شو"، و"وايلد"، والأمير تشارلز، و"برنارد لويس"، اتفقوا- وهو صحيح كالشمس في رائعة النهار بالنسبة لنا- على أن الفكرَ الإسلامي أعطى تمجيداً وأهمية كبرى لموضوع الأيتام، وربطه بكبار الأعمال من الشرور أو الفضائل حين تكون دائرة حول اليتم والأيتام.
إن هؤلاء الأبناءَ لم يرمهم المجتمعُ أيها القساة في المعاهد والمدارس التي من المفروض أن تكون تربوية ونسهم .. لا أبدا، والدليل هو أمامكم، هذه الرسائل التي نزفت الدمَ الحزين من أجل يتيم يتعرض للضرب، وتطالب بالنيل منكم، بعقابكم، بإنقاذ أولادنا وبناتنا الأيتام من ذوي الإنسانية المفقودة فالمجتمعُ متيقظ، ومراقبٌ، ومتوثب، وقبل كل ذلك أيها المتنمرون على هؤلاء المساكين الذين ائتمناكم عليهم: ألا تخافون الله.. ألا تخافون الله؟
إني متأكد أن الموضوعَ يناقش الآن على أكبر المستويات في الإدارات المختصة، وهذا قد لا يكفي، فكما نقول أكثر من مرة: إن المجتمع المدني عندنا جاهز ليقوم بدوره لحماية نفسه من العطوب ومن الجراح ومن التعديات ومن التصرفات التي تخرق هذا الجسدَ الاجتماعي بمثقبِ القسوةِ وقلة الإيمان وضعف الاعتبار وغياب كامل للحصيلة الإنسانية والدينية والخلقية، وهذه الجاهزية تحتاج تفعيلاً، تحتاج سماحا. إنها مياهٌ يا وزارة الشئون الاجتماعية عذبة تروي الظامئين تتلاطم وراء السد، لمجتمع يتعطش لمياه الخير.. فاجعلوا المياه تجري في مجاريها. أعطوا المجتمعَ الدورَ ليساهم معكم، فيخفف مسئولياتكم، ويعظـِّم دورَها، وشيءٌ مهم: سيخفـِّف بإذن الله من مساءلتكم اليومَ، وفي يومٍ تعلمون.