أسمهان أسرار وأحزان
تحققت في أسمهان نبوءة عجيبة؛ تولد على الماء، وهربت على الماء، وماتت أخيرا في الماء؟
كانت زوجتي ليلى رحمة الله عليها يعجبها صوتها فهي من الجيل القديم، الذي سمع لأسمهان وفريد الأطرش وأم كلثوم وعبد الوهاب وناظم الغزالي، واليوم أصبح الكل في ذمة الله، ينظر كل منهم ما قدمت يداه.
وقع تحت يدي كتاب في معرض الكتاب الأخير لشريفة زهور عن أسمهان، المغنية بعنوان (أسرار أسمهان) المرأة والحرب والحب، وكنت حريصا على فهم أسرار نهاية هذه المرأة، التي تمنيت لها أن تبقى للفن دون الدخول في ألغام السياسة والجاسوسية، فقرأت الكتاب بنهم في رحلتي الطويلة إلى المغرب، وهي رحلة إن وقفت في محطات أخذت قريبا من عشر ساعات، فإذا أضيف لها التأخر ساعات كما حصل معي فيمكن أن تقدر الوقت الضائع، وهو ضائع ربما لمعظم المسافرين إلا أنا فأقرأ وأكتب وأسجل ملاحظاتي وذكرياتي فلا أشعر بالوقت، فالوقت كما يقولون كالسيف إن لم تقطعه قطعك!.
بدأت حياة هذه المغنية على نحو تدريجي في مصر، وتبدأ قصة لقبها أسمهان، ولم يكن كذلك من قبل، حين سمع صوتها (داوود حسني) الفنان قال والدمع يجلل عينيه: لقد عثرت على فتاة بارعة الصوت، ولكنها ماتت، فكانت (أمل) ـ وهو الاسم الفعلي لها ـ أمله؛ فأطلق عليها (أسمهان).
قال: هي حسناء فارسية ساحرة في زمن غابر، وهو يليق بفخامة الصوت، وهكذا فلم يبق من أمل سوى أسمهان، وكان لاجتهاد حسني أن غموض الاسم يعطي فتنة وإثارة!.
أما القصبجي الملحن فقد قال حين سمع صوتها وهي تقلد صوت جانيت مكدونالد: إن هذا الصوت من الفردوس.
وحين غنت مع أخيها فريد الأطرش أمام طلعت حرب إمبراطور المال المصري؛ وقف أحد الظرفاء وأنشد لتوه:
غنى فريد وأحكم الأوزانا..
والعود فاض عواطفا وحنانا ..
فكأننا في أرض عسجد سجدا..
وكأنه وحي النغم أتانا ...
فبكت أسمهان من التأثر..
ومن أعجب ما أخذت من معلومات عن أسمهان أن صاحبتيها (لولي) و(لينا) كانتا بنات (أبو الهدى الصيادي) مفتي الديار العثمانية! فكانت (لولي) خريجة أوكسفورد، في جمعية أخوة الحرية (فريا ستارك)، وأنا أعرف لدد العداوة بين جمال الدين الأفغاني وأبو الهدى الصيادي، فقلت هل من المعقول أن تكون بناته من ناشطات الحرية والديمقراطية الأوائل في العالم العربي!
كان يمكن لأسمهان أن تنمو أمام أم كلثوم وأخيها فريد، لولا أن حياتها المهنية لم تدم طويلا، بسبب تورطها في السياسة، وبسبب من علاقتها العاطفية المضطربة في زواجها، بين تقاليد تطوقها، وأنوثة تحبسها، وأعراف جبل العرب في سوريا بأشد من ثقل الجبال تحجز حريتها، في وقت لم يكن للمرأة مجال أن تكون فنانة، بدون أن تخطئ في الغالب!.
خرجت أسمهان للتمثيل في عام 1932م بالصوت والصورة، وكانت بعنوان مجنون ليلى.
وكان يمكن أن تكمل المشوار الفني لولا كارثة السياسة، فقد شاركت في حملة (عملية المصدِّر Operation Exporter) فتعاونت مع البريطانيين في حملتهم لاحتلال سوريا، وبالطبع خدع الجميع بوعود حكومة فرنسا الحرة يومها ضد حكومة فيشي؛ فقد أصدر (كاترو) الشهير بيانه للسوريين واللبنانيين أنها:
" فرصة عظيمة في تاريخكم أن فرنسا تعلن استقلالكم بصوت أبنائها الذين يحاربون من أجل حياتها ومن أجل الحرية في العالم"، ليتبين فن الأكاذيب كما ينقل عن (ادريان ريتش) في كتابه (الأكاذيب ـ الأسرار ـ الصمت):
" كل ما لا يسمى، ولا يوصف بالصور، كل ما يحذف من السيرة، ويخضع للمراقبة في مجموعات الرسائل، كل ما أعطي اسما آخر، وصعب عليه المرور، كل ما يدفن في الذاكرة بانطواء المعنى تحت لغة غير مناسبة أو كاذبة، إن هذا لن يصبح شيئا غير منطوق به فقط، بل غير قابل للوصف أيضا!".