إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها
بعد تجربتي المريرة مع البعوض بدأت أحترم الذباب، فالذبابة كائن راقٍ يحترم قوانين النوم، فهو ينام مع الظلام، ويلحس الجلد في النهار، ويطير برشاقة، ويرى بسهولة ويقضى عليه بيسر !!
أما البعوض فيسهر في الليل، ويحفر الجلد، ويشفط الدم بشراهة جائع في وقت مجاعة، ومع هجمة الظلام يستنفر نفسه مثل (الكوماندو) الليلي، وفي اللحظة التي يرتخي فيها بدنك، ويداعب الكرى جفنيك، يبدأ الخبيث بمحاولات الاستطلاع (ربما بواسطة الأشعة تحت الحمراء) فيطن بجانب الأذنين، ثم يسكت، وتظن أن اللعين اختفى، ولكن الهدوء يدوم في حدود عشر دقائق، لأنه يكون قد قام بتركيب (الحفَّارات) ونصب المنجنيق، وقام بالهجوم السري في جنح الظلام، وربما بحقن مادة مخدرة في مكان الثقب، حيث يقذف ببصاقه فيرشف الدم دون أن يتجلط، ويحرك نوبة مريعة من حك الجلد، الذي يصل إلى درجة أن يجرح الإنسان نفسه إطفاءً لشراهة الحك!
لذا فقد اعتمدتُ أنا شخصيا استراتيجية جذرية مع البعوض في غرفة النوم، وهي بقاء أحدنا فقط في الغرفة؟! ومحاولة قتله وهو متربص على السقف استعداداً للهجوم، ولكنها عملية ليست دون مخاطر، فزميلي الدكتور (عادل) كسرت ذراعه في حملة مطاردة بعوضة!
ومع المعارك الطاحنة مع البعوض في هذه الآية التمعت الآية القرآنية التي تتكلم عن (البعوضة) أمام نظري على شكل آخر (إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها)؛ فاعتبرت الآية أن هذا الكائن موضع للتأمل من جهة، وأنها في أسفل سلم الخلائق فينطلق المثل منها لفوق، وقلت حقاً إنها ـ بالنسبة لنا ـ من أحقر وأضعف ما خلق الرحمن من جنود، في صفتين عجيبتين دون حدود: ضعف دون حدود، وإزعاج دون حدود !!
فهي في منتهى الهشاشة، وهي في نفس الوقت وحش مفترس يلعق الدم. تبين أن عندها مائة عين، وثلاثة قلوب، وجهاز تخدير في الوخز، وقدرة شم خاصة لرائحة الأرجل ولو من على بعد 60 كيلو مترا، وست شفرات حلاقة لمص الدم، و48 ضرسا! وثلاثة أجنحة في كل طرف، وجهاز حراري تعمل بالأشعة تحت الحمراء، ومختبر للدم يعرف الأنواع اللذيذة مثل دمي أنا وجهاز مميع للدم فإذا شفط الدم تحول إلى شراب لذيذ تنتفخ به البعوضة بما هو أشد من ثقلها؛ فيستحيل لونها إلى السواد، فإذا ضربت سهل قتلها وطرش الدم على الحائط!
والقرآن حينما يزج بمجموعة ضخمة من الأمثلة، في محاولة منه لتحريك العقل باتجاه اكتشاف (الطبيعة والتاريخ) فهو يستخدم البعوضة والذبابة، النمل والنحل، العنكبوت والهدهد، والبقرة والفيل، لنكتشف أنفسنا في هذا المهرجان الكوني ونرى دلائل الخلق التي لا تنتهي.
ولكن أين تقف (البعوضة) في سلم الخلق؟
هناك جدلية عجيبة في الوجود اكتشفها العلم الجديد، فالفكر الإنساني السابق، افترض وجود ساحة للمعلوم وساحة للمجهول، بحيث تنكمش ساحة المجهول مع كل زحف لساحة المعلوم، إلا أن العلم الحديث أدرك أن ازدياد ساحة المعلوم لا يعني انكماش وتقلص المجهول، بل على العكس فإنه يفضي إلى مزيد من اتساع رقعة المجهول، وهي فكرة تبدو للوهلة الأولى متناقضة وغريبة، ويمكن شرحها في ثلاثة مستويات؛ الفيزيولوجيا وعلم الذرة الحديث والبيولوجيا؛ ففي علم الفيزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) أُميط اللثام عن آلية تخثر الدم، وفرك العلماء أيديهم من الفرح، أنهم اكتشفوا آليات بسيطة محدودة مؤثرة في تخثر الدم، من مثل الصفيحات والفيبرين والكلس والفيتامين (ك) والبروثرومبين، ولكن فرحتهم مع الوقت لم تدم طويلاً، وبدأ الصداع يصيب رؤوسهم، فهم كل يوم أمام اكتشاف عنصر جديد (بلغت لايقل عن اثني عشر عنصرا)، والأدهى أن كل عنصر يدخل ضمن (مجموعة تركيبية) كل عنصر يأخذ مكانه في اللعبة، ويؤثر بدوره فيما عداه من عناصر!
وفي النهاية فإن الجميع يخضع لآلية مدهشة، وترابط متضافر ضمن شبكة محكمة، من عناصر تكاد لا تكف عن الكشف عن وجهها بين الحين والآخر، ليس الــ EDRF آخرها (العنصر المرخي والمرمم للشريان حين تعرضه للإصابة)..
وهكذا فكل غوص لأسفل الخليقة يعني زيادة في الخلق..
يزيد في الخلق ما يشاء إنه عليم قدير..