العراق: بريطانيا تتهيأ للانسحاب وفرنسا تبادر بالدخول
قبل نحو خمس سنوات وحينما قررت إدارة الرئيس الأمريكي جورج بوش غزو العراق، انقسم الأقطاب الأوروبيون الرئيسيون حول هذا القرار، فوقفت فرنسا بقيادة الرئيس جاك شيراك وألمانيا بقيادة المستشار جيرهارد شرودر بصورة واضحة ضده، بينما كانت بريطانيا بقيادة رئيس وزرائها السابق توني بلير في مقدمة الصف مع واشنطن بمشاركة سياسية وعسكرية كثيفة ورافقتها إسبانيا بزعامة رئيس وزرائها - السابق أيضاً - خوسيه ماريا أزنار بحماس لا يقل كثيراً عن الحماس البريطاني. وبعد وقوع الغزو واحتلال العراق بنحو أربعة أعوام ونصف العام ووصول الأوضاع بداخله إلى المستوى الكارثي الذي يراه الجميع، وفي الوقت الذي أضحت قضية كيفية تحقيق انسحاب مشرّف بأقل خسائر للقوات الأمريكية منه هي الأولى على أجندة النخبة والرأي العام في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي خلال يوم واحد تقريباً، بدا أن هناك تحولاً واضحاً في مواقف الدولتين الأوروبيتين الأبرز تجاه الوضع في العراق، وصل إلى حد تبادل المواقف القديمة.
هذا هو بالضبط ما حدث قبل يومين حينما قام وزير الخارجية الفرنسي الجديد برنار كوشنير بزيارة مفاجئة للعراق تعد الأولى من نوعها منذ احتلاله، بينما أعلن في اليوم نفسه قائد الجيش البريطاني أن أوضاعه في العراق وأفغانستان باتت لا تسمح بإرسال أي قوات إضافية إلى أي منهما ونشرت صحف بريطانية أن كبار قادة هذا الجيش أبلغوا رئيس الوزراء البريطاني الجديد جوردون براون بأنهم بذلوا كل ما في استطاعتهم في جنوب العراق، وأن قواتهم يجب أن تنسحب منه دون أي تأخير. المفارقة واضحة، الدولة الأوروبية التي قادت المعارضة الغربية للغزو الأمريكي للعراق، أي فرنسا، والتي كلفها ذلك أزمة عاتية مع الحليف الأمريكي دامت شهوراً طويلة واستمرت آثارها حتى مغادرة الرئيس شيراك منصبه في أيار (مايو) الماضي، هي التي تتقدم اليوم لتدخل إلى العراق في الوقت نفسه الذي تتهيأ الدولة الأوروبية التي كانت الأشد شراسة في مساندة واشنطن والدفاع عن سياستها الخارجية عموماً والتي أرسلت أبناءها لغزو العراق معها، أي بريطانيا، لسحب قواتها من العراق أو على الأقل من المناطق المشتعلة فيه.
والسؤال المنطقي الأول الذي يطرح نفسه هنا هو: لماذا وقع هذا التحول والتبادل في المواقف بين فرنسا وبريطانيا في ذلك التوقيت الحرج؟ والحقيقة أن التفسير يوجد فيما جرى من تغير في قمة السلطة في البلدين خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة. ففي فرنسا غادر شيراك، آخر الساسة الكبار فيها، قصر الإليزيه ومعه ما تبقى من تراث مؤسس الجمهورية الفرنسية الخامسة شارل ديجول الداعي إلى الوحدة الأوروبية وتمييز مواقف القارة العجوز دوماً عن الحليف الأمريكي تجاه عدد من القضايا الدولية مع الاحتفاظ الدائم بالتحالف الاستراتيجي معه. وبخروج شيراك احتل مقعد الرئاسة الفرنسية خليفته الشاب وقائد حزبه نيكولا ساركوزي الليبرالي الجديد المفتون بالنموذج الأمريكي اليميني المحافظ والراغب، على خلاف رؤية مؤسس تياره السياسي الرئيس ديجول، في إقامة تحالف أوثق وأكثر قوة مع الولايات المتحدة التي يشارك إدارتها الحالية كثيراً من رؤاها ومواقفها لما يجري في العالم. على هذه الخلفية وتلك الرغبة الفرنسية في تغيير العلاقة بين باريس وواشنطن أتت زيارة كوشنير لبغداد والدخول الفرنسي للعراق في هذا التوقيت، والتي تهدف إلى توصيل رسالة رمزية علنية للرئيس بوش وللعالم بأن فرنسا قد غيّرت موقفها القديم، وأنها ستكون إلى جانبه فيما هو آت من قضايا واستحقاقات دولية، دون أن يعني ذلك أي تورط فرنسي في المأزق العسكري القائم اليوم في العراق.
أما عن بريطانيا، فالوضع مختلف وإن ظل تغير رأس النظام السياسي هو مفتاح التفسير لتغير الموقف. فاعتزال الحليف الأبرز لإدارة الرئيس بوش على مستوى العالم توني بلير الحياة السياسية وخلافة جوردون براون له ترافق مع تزايد الإخفاقات العسكرية والسياسية الأمريكية والبريطانية في العراق الذي وصلت الأوضاع فيه إلى حد الفوضى شبه الشاملة، ومع وصول الرفض الشعبي والنخبوي الداخلي لاستمرار التورط البريطاني في العراق إلى أقصى نقاطه، لكي يدفعا بالقيادة السياسية الجديدة في البلاد وقبلها القيادة العسكرية إلى ضرورة إعادة حساباتها قبل فوات الأوان. والمفارقة هنا هي أنه إذا كان خليفة الرئيس شيراك في الحزب الحاكم وفي رئاسة فرنسا قد بدل موقف بلاده مما يجري في العراق، فإن خليفة رئيس الوزراء بلير في الحزب والدولة هو أيضاً الذي يستعد اليوم للقيام بتغيير جوهري في موقف بلاده مما يجري في العراق نفسه. فوفقاً للأنباء المتناثرة القادمة من لندن وبغداد، فإن رئيس الوزراء البريطاني الجديد سيعلن في تشرين الأول (أكتوبر) المقبل أمام مجلسي البرلمان في بلاده عن قرار سحب قواته من البصرة في جنوب العراق حيث تمركزت منذ احتلاله إلى حيث تستقر مؤقتاً بجوار مطار بغداد في انتظار انسحابها النهائي في وقت لاحق من بلاد الرافدين التي دخلتها قبل أربع سنوات يحدوها الأمل في بقاء طويل آمن فيها، وهو ما نسفته كل الوقائع والتطورات التي جرت منذ ذلك الوقت.