أقول لكل مسؤول: "وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا"
يقول المقنع الكندي، وهو شاعر مقل من شعراء الإسلام في عهد بني أمية، وكان له محل وشرف ومروءة وسؤدد في عشيرته، وكان متخرقا في عطاياه، سمح اليد بماله، لا يرد سائلا عن شيء، يقول في رائعة من روائعه الشعرية:
وإن الذي بيني وبين بني أبي ** وبين بني عمي لمختلف جدا
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم ** وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجدا
وإن ضيعوا غيبي حفظت غيوبهم ** وإن هم هووا غيبي هويت لهم رشدا
وإن زجروا طيرا بنحس تمر بي ** زجرت لهم طيرا تمر بهم سعدا
ولا أحمل الحقد القديم عليهم ** وليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
أوردت هذه القصيدة بعد أن نما إلى علمي غير مرة أن أكثر من مسؤول في أكثر من مؤسسة جعل المؤسسة التي يرأسها تتخذ موقفا سلبيا من نشاط (مؤتمر، ندوة، منتدى .. إلخ) أو من مؤسسة حكومية أو خاصة أو غير ربحية بسبب موقف شخصي ناتج عن احتكاك سلبي بينه وبين المسؤول القائم على النشاط أو المؤسسة الأخرى في زمن ما قبل أن يكون هو رئيسا لتلك المؤسسة، ما أفقد النشاط أو المؤسستين عنصرا مهما من التفاعل، مما أثر سلبا على الطرفين وعلى المجتمع بالمحصلة.
نعم أيها الإخوة لدينا مسؤولين لا يستطيعون أن يتجاوزا القضايا الشخصية من ناحية، كما أنهم لا يستطيعون الفصل بين القضايا الشخصية والقضايا المؤسساتية، لذلك تجدهم يحولون مواقفهم الشخصية إلى مواقف للمؤسسات التي يرأسونها، وهذا لعمري يشير لضعف في الفهم مصحوب بصعوبة في تجاوز ما مضى والانتقال من مرحلة الجفاء من أجل الانتقام الشخصي إلى مرحلة الوئام والتفاهم من أجل الوطن والصالح العام.
المقنع الكندي يوضح في البيت الأخير من الأبيات المذكورة أعلاه أنه ينسى قديم حقد قومه، مؤكدا أن ليس من الرؤساء من يحقد وإلا انتفت عنه صفة الرئاسة والمسؤولية، لأن ذلك عار عليه من ناحية ودمار عليه وعلى المجتمع من ناحية ثانية، ذلك لأنه سيتخذ قرارات مبنية على عواطفه السلبية (الحقد)، وهي قرارات تهدف لتحقيق مصالح ضيقة على حساب مصالح المجتمع والوطن الواسعة، وهو أمر لا تحمد عواقبه.
والمؤلم حقيقة أن مؤسسات كبيرة ذات أهداف نبيلة ومؤثرة في تنمية البلاد تحجم عن التعاون مع مؤسسات أخرى مؤثرة، ما يضعف قدرات المؤسستين على تحقيق أهدافهما التي لو تحققت في الوقت المناسب لنعم بتحقيقها الجميع، وللأسف الشديد فإن هذه المؤسسات تحجم عن التعاون لأن رئيسها حاقد على رئيس الجهة الأخرى لكلمة قالها أو موقف اتخذه في غابر الأزمان، ولذلك فهو يعمل على ألا تنجح المؤسسة التي يرأسها الطرف المحقود عليه لكيلا يرتفع شأنه بتحقيق النجاحات التي لا شك أنها ستكون نجاحا للوطن، ما هذا؟ رجال كبار في العلم والمعرفة والخبرة والعمر أيضا بهذا المستوى من التفكير، وهذا المستوى من التعامل مع قضايا الوطن والمواطن!
أكثر من مؤتمر يعقد من أجل مناقشة قضايا تهم مؤسسة منظمة لسوق كبير يقع في دائرة اهتمام كل مواطن، يمتنع رئيسها عن الحضور لأسباب واهية تأكد للجميع بعد البحث فيها أن امتناعه عن الحضور بسبب موقف شخصي، جعله موقفا للمؤسسة التي يرأسها، ومن الخاسر؟ المجتمع والوطن.
مسؤول كبير آخر يلغي مؤسسة غير ربحية كبرى من حساباته، ويتهرب من الالتقاء بأي من أعضائها أو المشاركة في أي من أنشطتها، رغم أن المؤسسة التي يرأسها ذات صلة كبيرة بالمؤسسة التي يهملها، على اعتبار أن مؤسسته لا يمكن لها أن تحقق أهدافها دون التعاون المثمر البناء مع تلك المؤسسة التي لا يمكن تجاوزها مهما طال الزمان أو قصر، أي منزلق هذا؟ الله وحده يعلم.
والأمثلة كثيرة وليس المجال هنا لحصرها، وما أرجوه وما يرجوه كل مواطن غيور على بلاده أن يترفع كل مسؤول على هذا المستوى من التفكير والسلوك، وأن يضع مشكلاته الشخصية مع الآخرين في مكانها الطبيعي خارج المؤسسة التي يرأسها، وألا يجعل مواقفه الشخصية تؤثر في مواقفه العملية، وأن يضع الوطن نصب عينيه في تحديد موقف مؤسسته من أي نشاط أو أي مؤسسة أخرى، وأن ينتصر على ذاته ويزيل جميع أشكال الحقد على الآخرين مهما كانت الأسباب، فليس رئيس القوم من يحمل الحقد.