بعد النجاح الكاسح لحزب العدالة والتنمية: دروس من تركيا

دار الزمن دورته السريعة، وفاز حزب العدالة والتنمية التركي مرة أخرى باكتساح غير مسبوق في الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت قبل يومين، ليفتتح على ما يبدو مرحلة جديدة من تاريخ هذا البلد ومعها مرحلة مماثلة من تطور الأحزاب السياسية ذات التوجه أو الأصل الإسلامي على مستوى العالم. فبعد فرز كل الأصوات تقريباً، توضح النتائج شبه الرسمية أن الحزب قد حصل على نحو 47 في المائة من أصوات الناخبين بزيادة قدرها 12 في المائة تقريباً عما حصل عليه في انتخابات أيلول (سبتمبر) 2002، وليصبح بذلك أول حزب تركي حاكم يستطيع أن يزيد من نسبة مؤيديه في الانتخابات البرلمانية التي يجريها وهو في الحكم منذ نحو 52 عاماً من التاريخ التركي.
وبالرغم من تلك الزيادة في الأصوات، فإن عدد المقاعد التي سيحصل عليها حزب الأغلبية التركي سوف تراوح حول 340 مقعداً، بما يقل بنحو 12 مقعداً عما كان له في البرلمان السابق بسبب النظام الانتخابي التركي القائم على التمثيل النسبي والذي سمح لحزبين علمانيين آخرين بدخول البرلمان معه، ومع ذلك فهذا العدد من المقاعد سيكون كافياً لأن يشكل الحزب الفائز الحكومة المقبلة بمفرده.
والأهمية التاريخية لهذه النتائج الكاسحة التي حققها الحزب ذو التوجه أو الأصل الإسلامي تأتي أولاً من كونه الأول من هذه النوعية من الأحزاب على مستوى العالم الذي استطاع أن يحصل في انتخابات أيلول (سبتمبر) 2002 على الأغلبية الكافية لحكم تركيا بمفرده في انتخابات حرة ديمقراطية لا شبهة حولها. فقد افتتح الحزب التركي بتلك النتائج مرحلة جديدة من نجاحات متوالية للأحزاب والتيارات الإسلامية السياسية السلمية على مستوى العالم كله، حققت خلالها عبر أكثر من 16 انتخاباً برلمانياً ومحلياً نتائج لم يسبق لها الحصول عليها. فهكذا كان الحال من انتخابات باكستان شرقاً إلى المملكة المغربية غرباً، مروراً بالأردن، لبنان، الكويت، البحرين، السعودية، العراق، مصر، وفلسطين، حيث قفزت فيها جميعاً الأحزاب والقوى الإسلامية خطوات واسعة إلى الأمام وصلت إلى حصول حركة حماس على أغلبية الأصوات في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في كانون الثاني (يناير) 2006.
ولا يخفى أن أهمية الانتصار الأول الذي حققه الحزب التركي ذو الأصل والتوجه الإسلامي أتت على المستوى الدولي من جانب أساسي، وهو أنه أتى بعد عام واحد فقط من هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 على نيويورك وواشنطن، التي ترتب عليها بدء أوسع حرب عالمية شنتها الولايات المتحدة ومعها معظم دول العالم على "الإرهاب"، الذي ربط عنوة بالإسلام والحركات المنتمية إليه بمختلف أنواعها. وقد أكد ذلك الانتصار الأول الكاسح للحزب التركي ذي الأصل الإسلامي أن الوجه الحقيقي للإسلام السياسي مختلف تماماً عن الوجه الذي تروج له أطراف عديدة في العالم، باعتباره مرادفاً للعنف والإرهاب، فقد أعاد تقديمه بصورته الحقيقية السلمية المعتدلة عبر انتخابات حرة ديمقراطية وليس عبر الهجمات الانتحارية والعمليات الإرهابية التي روجت تلك الأطراف أنها الوسائل الوحيدة التي يعرفها الإسلاميون بل والمسلمون جميعهم.
وبعد خمس سنوات من الانتصار الأول وست سنوات من بدء الحرب على الإرهاب والحملة الدولية الواسعة على كل ما يرتبط بالإسلام سياسياً وحركياً، يؤكد حزب العدالة والتنمية التركي مرة أخرى أن إمكانية تقدم هذه النوعية من الأحزاب والتيارات الإسلامية أو ذات الجذور الإسلامية لا تزال ممكنة، بل أكثر احتمالاً من ذي قبل بالرغم من كل الحملات الواسعة التي عرفها العالم ضدها خلال تلك السنوات. إلا أنه في الوقت نفسه، فإن الانتصار الساحق الجديد للحزب التركي يؤكد أيضاً على أنه يظل مرتبطاً بتغييرات واسعة أجراها ذلك الحزب في داخل صفوفه وفي بنية أفكاره وبرامجه السياسية، وقبل كل ذلك في أدائه السياسي خلال الأعوام الخمسة التي قضاها في الحكم.
والمضمون الجوهري لهذا الدرس الكبير الذي يقدمه الحزب التركي ذو التوجه الإسلامي لنظرائه على مستوى العالم الإسلامي، هو أن قدرته على اكتساب تأييد وأصوات الناس في بلاده ارتبطت ليس بالقدر الذي يقدمه لهم من الأوامر والنواهي حسب تصوره للشريعة الإسلامية، بل بقدر ما استطاع أن يراعيه ويحققه من مقاصد هذه الشريعة ومصالح المسلمين الضرورية وهي حفظ النفس والعقل والدين والنسل والمال، فقد اجتهد الحزب بكل مستوياته التنظيمية والحركية خلال سنوات حكمه الخمس وقبلها أثناء سيطرته على بعض المجالس المحلية في تركيا، لكي يحسن من أحوال المواطنين الأتراك ويحقق لهم أكبر وأقصى قدر ممكن من تلك الضرورات الخمس، وهو الإنجاز الذي تؤكده اليوم جميع التقارير والدراسات المحلية والدولية بشأن تقدم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في تركيا بصورة لم تحدث منذ تأسيس جمهوريتها العلمانية قبل أكثر من 80 عاماً.
الدروس التي يقدمها الانتصار الكاسح الثاني لحزب العدالة والتنمية في تركيا كثيرة ومتعددة الرسائل إلى أطراف عديدة بعضها داخل العالم الإسلامي والآخر خارجه. والأكثر أهمية اليوم من تلك الدروس العميقة التي تحتاج إلى مزيد من الدرس والتأمل، هو مدى قدرة من تخصهم تلك الرسائل التي تتضمنها على فهمها والاستفادة منها في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي