الأدب مع الله عز و جل ..سمة جليلة وخلق كريم
إن من أجمل ما يتخلق به المرء، الأدب مع الله في سؤاله والتذلل بين يديه بأن يصون العبد معاملته فلا يشوبها بنقيصة وأن يصون قلبه فلا يلتفت لغيره وأن يصون إرادته فلا يتعلق بما يمقته الله منه وقد قٌال ابن المبارك: (نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم). تأمل أحوال الرسل والأنبياء صلوات الله و سلامه عليهم مع الله وخطابهم وسؤالهم وانظر كيف أنها مشحونة بالأدب قائمة به. فانظر إلى قول المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه في تذلل وانكسار بين يديه يرجوه ويشكو إليه :( اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ،وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي ، إلى من تكلني إلى بعيد يتجهمني ، أم إلى عدو ملكته أمري ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك) .
انظر إلى هذا الأدب الجميل والتذلل بين يدي الرب العزيز الحكيم والانكسار بين يدي أرحم الراحمين فاعترف صلى الله عليه وسلم بضعفه أمام قوة ربه وقلة حيلته وهوانه على الناس فإظهار المسكنة بين يدي ربه مدعاة للاستجابة "إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي" أي لا يهم ما أنا فيه من عذاب ما دام ذلك في غير غضب منك يا رب ولكن بالطبع عافيتك يا رب أوسع لي من وقوع العذاب فهذا هو الأدب والتذلل بين يدي الله تعالى وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك".
ومن الأخلاق النبوية السامية في الأدب مع الله : وقد امتدح الله نبيه عليه الصلاة والسلام بحفظه لبصره حينما قال تعالى : (ما زاغ البصر وما طغى) [ النجم : 17 ] فهذا وصف لأدبه - صلى الله عليه وسلم- في ذلك المقام إذ لم يلتفت جانبا ولا تجاوز ما رآه وهذا كمال الأدب فلم يلتفت الناظر عن يمينه ولا عن شماله أو يتطلع أمام المنظور فالالتفات زيغ والتطلع إلى ما أمام المنظور طغيان ومجاوزة فكمال إقبال الناظر على المنظور ألا يصرف بصره عنه يمنة ولا يسرة ولا يتجاوزه وفي هذه الآية أسرار عجيبة وهي من غوامض الآداب اللائقة بأكمل البشر: فقد تواطأ البصر والبصيرة وتوافقا وتصادقا فيما شاهده ببصره وبصيرته ولهذا قال سبحانه وتعالى : (ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى) [ النجم : 112] أي ما كذب الفؤاد ما رآه ببصره صلى الله عليه وسلم .
إن الأدب هو الدين كله فإن ستر العورة من الأدب والوضوء وغسل الجنابة من الأدب والتطهر من الخبث من الأدب حتى يقف بين يدي الله طاهرا ولهذا كانوا يستحبون أن يتجمل الرجل في صلاته للوقوف بين ربه وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول : أمر الله بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة فقال تعالى :(خذوا زينتكم عند كل مسجد) فعلق الأمر بأخذ الزينة لا بستر العورة إيذانا بأن العبد ينبغي له أن يلبس أزين ثيابه وأجملها في الصلاة لمقابلة ربه عز وجل وكان لبعض السلف حلة بمبلغ عظيم من المال يلبسها وقت الصلاة ويقول: "ربي أحق من تجملت له في صلاتي" ومعلوم أن الله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ولاسيما إذا وقف بين يديه فأحسن ما يقف العبد بين يديه بملابسه ونعمته التي ألبسه إياها ظاهرا وباطنا. ومن الأدب مع الله الوقوف بين يديه في الصلاة وضع اليمنى على اليسرى حال قيام القراءة فعن سهل بن سعد : (أنه من السنة) وكان الناس يؤمرون به ولا ريب أنه من أدب الوقوف بين يدي الملوك والعظماء فعظيم العظماء أحق به ومنها السكون في الصلاة وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه (الذين هم على صلاتهم دائمون) فعن عقبة بن عامر أنه سئل أهم الذين يصلون دائما ؟ قال : لا ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه ولا عن شماله ولا خلفه وقيل : هما أمران الدوام عليها والمداومة عليها فهذا الدوام والمداومة في قوله تعالى : (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة وأدبه في استماع القراءة : أن يلقي السمع وهو شهيد وأدبه في الركوع : أن يستوي ويعظم الله تعالى حتى لا يكون في قلبه شيء أعظم من ربه ويتضاءل ويتصاغر في نفسه حتى يكون أقل من الهباء .
(مختصر من كتاب تهذيب مدارج السالكين)
وأخيرا فإن الأدب مع الله تبارك وتعالى : هو القيام بدينه والتأدب بآدابه ظاهرا وباطنا ولا يستقيم لأحد قط الأدب مع الله إلا بثلاثة أشياء : معرفته بأسمائه وصفاته ومعرفته بدينه وشرعه وما يحب وما يكره وأن يكون له نفس مستعدة قابلة لينة متهيئة لقبول الحق علما وعملا وحالا والله المستعان.
عاطف بن فتحي العلواني - الخبر