البحتري في إيوان كسرى
عندما مر الشاعر (البحتري) على إيوان كسرى في القرن الثالث الهجري، ذهل للعظمة التي تحملها الأعمدة في أطلال المدينة الكسروية في بقايا مدينة برسيبوليس، تلك التي أحرقها وأهلها ونهبها الإسكندر المجرم الأكبر دون مبرر إلا الحسد كما وصفته قناة الديسكفري.
وتحت تأثير هذا السحر الذي خطف بصره، لم يصدق أهو صناعة جن أم أنس ، تخيل فيها القوم وهم يمارسون حياة عظيمة في عتمات الماضي السحيق؛ فوقف ينشد:
حضرت رحلي الهموم فوجهت إلى أبيض المدائن عنـــــسي
أتسلى عن الحظـــوظ وآسى لمحلٍ من آل ساســـان درس
ذكرتنيهم الخطــوب التـــوالي ولقد تذكر الخطوب وتنســـي
وهم خافضون في ظـــل عال مشرفٍ يحسر العيون و يخسي
ليس يدري: أصنع إنس لجن سكنوه أم صنع جن لإنـــــــس
غير أني أراه يشــــهد أن لم يك بانيه في الملوك بنـــــكس
فكأني أرى المراتـب والقـوم إذا ما بلـغت آخر حســــــــي
وكأن الوفود ضاحين حسرى من وقوف خلف الزحام وخنس
وكأن القيان وسط المقاصــير يرجحن بين حو ولعــــــــس
وكأن اللقاء أول من أمـــــس ووشك الفراق أول أمــــــس
عمرت للسرور دهرا فصارت للتعزي رباعهم والتأســـــي
فلها أن أعينها بدمــــــــــوع موقفات على الصبابة حبــس
وإذا كان شاعرنا البحتري المنبجي قد أصيب بالذهول، فخلد المكان بالشعر، إلا أن هذا المنظر ترك أثرا ًمختلفاً عند عالم الأثريات (هنري رولنسون) الذي تسلق حبلا، ليقرأ النقوش التي تركها دارا، في عمل استغرق 12 سنة، من أجل فك رموز اللغة الفارسية القديمة، فكما كان لفك لغز الكتابة الهيروغليفية قصة مثيرة باكتشاف حجر رشيد، فإن فك الكتابة الفارسية القديمة كانت قصة مثيرة من نوع مشابه.
يقول المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في سفره التاريخي وهو يتحدث عن حضارات الشرق الأدنى :( لقد حيرت الكتابة البابلية العلماء فظلوا مئات السنوات عاجزين عن حل رموزها، وكان نجاحهم في حلها آخر الأمر عملاً من أجلِّ الأعمال في تاريخ العلم. وتفصيل ذلك أن (جورج جروتفند) أستاذ اللغة اليونانية في جامعة (جوتنجن) أبلغ المجمع العلمي في تلك المدينة عام 1802 م، أنه ظل عدة سنين يواصل البحث في بعض مخطوطات مسمارية، وصلت إليه من بلاد الفرس القديمة، وأنه استطاع آخر الأمر أن يتعرف على ثمانية، من الاثنين والأربعين حرفاً المستعملة في هذه النقوش، وأنه ميز ثلاثة من أسماء الملوك المدونة فيها، وبقيت الحال كذلك حتى عام 1835 م حين استطاع (هنري رولنسن) أحد موظفي السلك السياسي البريطانيين في إيران، ـ على غير علم منه بما توصل إليه جروتفوند ـ أن يقرأ ثلاثة أسماء هي (هتسبس) و (دارا) و (حشيارشاي = كزركسيس) في نقش مكتوب بالخط الفارسي القديم، وهو خط مسماري مشتق من البابلية ، وأمكنه بفضل هذه الأسماء أن يقرأ الوثيقة كلها في آخر الأمر ، لكن هذه الكتابة وإن كانت مشتقة من الكتابة البابلية، لم تكن هي البابلية نفسها، وقد بقي على رولنسون أن يعثر على حجر رشيد مصر، أي على نص واحد باللغتين الفارسية القديمة والبابلية.
وهذا ما عثر عليه، في مكان يعلو عن سطح الأرض نحو ثلاثمائة قدم، وكان هذا النقش على صخرة يتعذر الوصول إليها، عند (بهستون) في جبال (ميديا) حيث أمر (دارا الأول) الحفارين؛ أن يسجلوا حروبه وانتصاراته بثلاث لغات: الفارسية القديمة والآشورية والبابلية.
وظل (رولنسن) يوماً بعد يوم يرقى هذه الصخرة، معرضاً بذلك حياته لأشد الأخطار، وكثيراً ما كان يشد نفسه بحبل، وهو ينسخ كل حرف من حروفها بعناية بالغة، وأحياناً كان يطبع النقش كله على عجينة لينة كي يكون الأصل دقيقا.
وبعد جهد دام اثني عشر سنة كاملة، نجح في ترجمة النصين البابلي والآشوري عام 1847م ، وأرادت الجمعية الآسيوية الملكية، أن تتثبت مما وصل إليه رولنسون وغيره من العلماء في هذه الوثيقة، وغيرها من الوثائق، فأرسلت الى أربعة من علماء الآثار الآشورية، أربع صور من وثيقة مسمارية، لم تكن قد نشرت وقتئذ، وطلبت الى كل منهم على انفراد أن يترجمها مستقلاً عن الثلاثة، دون أن يتصل بهم أو يراسلهم، فجاءت الردود كلها متفقة مع بعضها اتفاقاً يكاد يكون تاماً، وبفضل هذا الكفاح العلمي المنقطع النظير، اتسعت دائرة البحوث التاريخية، وبهذا العمل وصل رولنسون إلى ما وصل إليه لاحقاً شامبليون الفرنسي، حينما فك لغز اللغة الهيروغليفية بعد جهد استغرق عشرين عاماً.
وقل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل.