في الذين يكرمـون اتقاء لشرهم!
"رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي" عبـارة مأثورة أفتتح بها مقالي اليوم ليولد منها ألف سؤال: هل حقاً ندعو بالرحمة للأشخاص الذين يلفتون وعينا لما نقترفه عمداً أو سهواً من أخطـاء؟ هل حقاً لدينا ثقافة الدعاء بظهر الغيب لمن يرشدنا إلى زلاتنا وهفواتنا بطريقة إيجابيـة؟ فيحدث الأثر والتجاوب السلوكي المطلوب؟ هل هؤلاء الأفراد ضمن زمرة من "وصانا أو استوصانا" بالدعاء؟ تساؤلات تداعت في رأسي لتصيبني بالحيرة ... تجرني للحديث عن شريحة من البشر نكرمهم ونأخذهم في أحضاننا أحياناً لنكتشف لاحقاً أن سهام الغدر والتشفي هي كل الذي يملكون!
كلنا يعرف أنه ليس فينا من لا يحمل عيوباً فريدة، وجميعنا خطاؤون وبعضنا توابون والبعض الآخر يتناسون، لذا وجب علينا تقبل الأشخاص الآخرين من حولنا على علاتهم والاتصاف بالمرونة في التعامل معهم حتى لا نضطر إلى تغيير مواقفـنا لأنه لا يمكننا تغييرهم. أتحدث عن فئة من الناس توجد في عالمنا أشبهها بنبات الصبّـار، أخضر اللون، يجذب بشكله ولونه بعض التافهين وربما بعض المخدوعين . يقاوم عوامل التهميش من الطبيعة، ذو فائدة لكنها تخرج بعد مشقـة، يزداد صلابة وقوة بأية طريقـة! لديه حاجة ملحة لليقيـن فلا يحتمل إثارة الشك في مواقفه لأنه يعتقد أن رأيه هو الوحيد الصحيح. لا يترك إنساناً ينجح لأنه ينتج الفشل، المهم أنه ينبت ويكبر ليثبت وجوده وليفرض أشواكه على المارين. مسكين متعمد .. يجرح طرقات المساكين، والكل يتحاشاه، والناس يكرمونه لأنهم يخافون من لسانه السليـط، ويكرمونه لأنهم يخافون سلطته. هذا النوع من الإكرام ليس إكراماً ينبع من محبة، بل هو إكرام يظهر بدافع الخوف، ويضطر المتعاملون معه للإشادة باسمه ومنصبه ومناقبه لأنه موجود هناك طارئ لا يمكن السكوت عنه، ولكنه حقيقة يقع خارج إطار الوعي الآدمي .. ويستحيل أن تتضمنه دعواتـنا.. فهو بالتأكـيد ليس من الـوادّيـن.
ولو تناولنا الأمر إدارياً، أقـول ... إننا يُفرض علينا التعامل مع أناس لا نتقبلهم منذ الوهلة الأولى (زملاء أو رؤساء ) والأرواح جنود مجندة حتى في بيئة العمل، إلا أن الوقت والاحتكاك بهم يظهر بعض الصفات الكريمة المخبأة، مما يقربنا أكثر منهم ونتمنى لو أن الزمن يعود حتى نزداد معرفة بهم. لا شك أن هناك أناساً نحملهم في القلوب يزينون أركان البطين الأيمن والبطين الأيسر، نهبهم صكوك تملك ونخجل أن نوقع معهم عقود إيجار مؤقتة . لأنهم بحق يستحقون القلب والحنايا فهم يعينوننا على تخطي مصاعب الحياة ويساعدوننا على الكينونة أفراداً متميزين. عليه لا بد أن أسأل مَن يقرأني: هل هناك في مروج القلب مالكٌ مستحق أو مستأجر ينتهي عقده بالتمليك؟ وأنا لا أقصد الأقرباء الحميمين؟ بل أناس لم تلدهم أمهاتنا ولا فرضتهم علينا قراباتنا، بل نحن الذين صنعناهم بالود والاهتمام والتمكين.
أما عن نباتات الصبار فما أكثرها في هذا الزمان وما أتعس بيئة العمل فيها؟ وحيث إنه لا مجال للمزاجية في العمل، فإننا نمارس مع هذه الفئة سياسة "مسموح الاقتراب لكن ممنوع اللمس"، بعد محاولات لمساعدتهم على شرور أنفسهم، إلى أن نوقن أن التعامل معهم لا يخضع لرد الفعل بل للمبادرة بالفعل دون انتظار مردود. تحتم علينا ضمائرنا وقيمنا وطبيعة العمل. هذا هو الإكرام الذي يجب علينا محاصرتهم به. يقول سيدنا علي كرم الله وجهه: "خالطوا الناس مخالطة، إن غبتم حنّوا إليكم وإن متّـم بكوا عليكم". كم هو صعبٌ سلوك المداراة! نفعله على الأقل حتى نضمن عدم مجاهرتهم بالعداء والتأليب والتحريض. ولا بد لنا أن نميز بين مداراة الناس تألفاً لهم ودفعاً لشرهم وبين النفاق والمداهنة، فالمداراة هي ضبط الإنسان حركته وكل ممارساته عن أجواء الانفعال والتأزم والمواجهة العنيفة مع الآخرين. فلا يُجرّ إلى مواقف متشنجة مفتعلة حتى يحفظ شخصيته، ويعطى الطرف الآخر مجالاً كي يفكر ويراجع نفسه في محاولة منه لتصحيح مواقفه. فالمداراة مطـلوبـة، أما المداهنـة فمحرَّمـة.
أقول لمن يبادر بالشوك ظناً أنها الورود .. خوفاً من وطـأة أقدام الراحلين .. ليست كل الدنيا غابات .. ولا صحراء تبكي فيها الطرقات.. كتب الله عليكم حياة الصبّـار القاحلة ... وكان الاختيار عمداً مع الإصرار بالاستمرار .... فلم لا تكون مبادرات المودة ونفع الآخرين هي الغالبة! لم لا نبحث عن المحاسن بدل البحث عن الثغرات في عملنا وفي سلوكنا البشري، وبدل كظم الحسد والفرقعة من كثرة الغيرة؟ لا داعي للأحلام الشريرة... ولا للبحث عن سقطات الآخرين وزلاتهم الصغيرة، فإنما الأعمال بالنيات وسيجني الصبار على نفسه مهما كان حجم المداراة .. أترككم سيداتي سادتي لتنعموا الآن بالصحبة الصالحة ... هدى الله الصبّـار ... وأدام علينا وعليكم مودة المحبين ...
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ تَرَكَهُ أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ اتِّقَاءَ فُحْشِـهِ" صحيـح البخاري.