مكافحة التستر وسيلة للقضاء على الاقتصاد الخفي

يوجد في مختلف الدول إلى جانب الاقتصاد المعلن والظاهر نوع آخر يطلق عليه تسمية الاقتصاد الخفي؛ حيث يتم التعبير عنه بمصطلحات وعبارات متعددة مثل الاقتصاد غير الرسمي أو الموازي أو غير النظامي أو الاقتصاديات السوداء أو الاقتصاد تحت الأرض. ويقصد به الاقتصاد الذي يتم بعيداً عن أعين السلطات والجهات الرسمية والذي لا يدخل ضمن تقديرات الخطة الاقتصادية بالدولة, وهو يتكون من الدخول التي يحصل عليها بعض الأشخاص الذين يحصلون على دخول غير قانونية من تجارة المخدرات أو السمسرة أو التهرب الضريبي أو إعطاء دروس خصوصية أو الجمع بين وظيفتين في وقت واحد أو العمل خارج ساعات العمل الرسمية وذلك بالتحايل على عدم الانتظام في العمل بجميع الأعذار المرضية وغيرها.
وتقدر نسبة من يعملون أعمالا إضافية في بعض الدول مثل إيطاليا بنحو 40 في المائة من العاملين والكتبة في بعض الوزارات.
وتؤثر الدخول التي تتم في إطار الاقتصاد الخفي سلبا على العملية الاقتصادية؛ حيث يبدو ذلك من ناحية في ضعف الإنتاجية؛ حيث يكون أداء الأعمال الإضافية لمن يعمل في أكثر من وظيفة على حساب الأعمال الأصلية, وتقل ساعات العمل الفعلية فيؤثر ذلك سلباَ في الدخل القومي فينخفض؛ كما يبدو من ناحية أخرى في زيادة درجة عدم العدالة في التوزيع.
ويؤثر الاقتصاد الخفي بشكل سلبي في القيمة المضافة المتحققة لدى المؤسسات والهيئات الحكومية، حيث تؤثر الأعمال الإضافية للعاملين في جهات أخرى على ضعف اتجاهاتهم في الشركات العامة والجهاز الإداري الحكومي الحقيقي مسجلا بأعلى من قيمته الحقيقية؛ بل يمكن أن يترتب عليها نتائج اجتماعية سيئة, حيث تصعد الفئات الدنيا من المجتمع التي تحصل على دخول غير مشروعة خفية إلى أعلى السلم الاجتماعي بسبب ارتفاع الدخل وما يرتبط به من تصرفات استهلاكية ونفوذ اقتصادي أو سياسي في بعض المجتمعات النامية؛ كما يضعف المركز الاجتماعي النسبي للفئات المتوسطة والتي تقبل على الأعمال الدنيا التي لا تتناسب مع التأهيل العملي أو الأسري لهم من أجل الحصول على دخول مرتفعة لمواجهة غلاء المعيشة التي تصاحب نمو الاقتصاد الخفي وهو ما يؤدي في النهاية إلى سوء توزيع الموارد الاقتصادية والبشرية على قطاعات النشاط الاقتصادي, وذلك إضافة إلى تراجع القيمة الاجتماعية للتعليم والثقافة وزيادة نسبة التسرب من التعليم وارتفاع معدل الأمية.
ومن الناحية الأمنية يوجد ارتباط وثيق بين الدخول المتحققة في الاقتصاد الخفي وتمويل أنشطة الإرهاب المحلي والدولي في مختلف أنحاء العالم ودعم الجماعات الإرهابية ماديا وارتباط ذلك بعمليات غسل الأموال الناتجة عن أعمال غير مشروعة, ما جعل بعض الدول مثل الولايات المتحدة تفرض العديد من القيود المشددة على حركة ألأموال الداخلة والخارجة من البلاد إلى الدول التي تأوي وتساند حركات الإرهاب في العالم؛ بل اتجهت وزارات الداخلية في مختلف دول العالم إلى إنشاء إدارات متخصصة للأمن الاقتصادي وملاحقة عمليات غسل الأموال وتعقب الجرائم الاقتصادية وكشف علاقتها بالإرهاب والعنف والتطرف والحرص على تعميق روابط التعاون الدولي لمنع الجرائم الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الخفي.
ويرجع بعض الاقتصاديين ظاهرة الاقتصاد الخفي إلى العديد من الأسباب أهمها وجود تعقيدات إدارية بيروقراطية حكومية ترتبط بزيادة حجم القطاع العام وزيادة دور الدولة في ملكية وإدارة النشاط الاقتصادي, وارتفاع مستوى الأعباء الضريبية؛ إذ تشير بعض الدراسات الاقتصادية إلى أن الضرائب مسؤولة عن حدوث الاقتصاد الخفي بشكل كبير في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والدول الإسكندنافية؛ حيث إن ارتفاع معدلات الضرائب يؤدي إلى ارتفاع عدد حالات التهرب الضريبي, فيتهرب بعض رجال المال والأعمال من سداد الضرائب, وذلك من خلال التلاعب في القيمة الدفترية والسجلات لإخفاء القيمة لهذه الملكيات؛ ما يترتب عليه سوء توزيع الدخل القومي وتكون المحصلة النهائية هي إثراء بعض الأشخاص المتهربين من سداد الضرائب الحقيقية التي يجب عليهم الوفاء بها لخزانة الدولة؛ كما أن بعض الدول تفرض ضرائب ورسوما جمركية على السلع الواردة من الخارج دون سداد رسوم جمركية عليها؛ و يحدث الاقتصاد الخفي من التهرب من سداد رسوم بعض السلع المصدرة للخارج, مثل تهريب الماس والأحجار الكريمة التي يتم تهريبها إلى الخارج دون سداد رسوم التصدير المستحقة عليها وتحقيق ثروات طائلة من وراء ذلك.
ويُعد التستر في المعاملات التجارية من أهم مصادر الاقتصاد الخفي في دول مجلس التعاون الخليجي؛ حيث يلجأ بعض الأجانب إلى بعض المواطنين ويقدم له راتبا شهريا أو سنويا أو نسبة من الأرباح يتم الاتفاق عليها بين الطرفين بحيث يصبح المواطن متسترا على الأجنبي فيتنازل له عن حقه في استخدام ترخيص مزاولة النشاط الاقتصادي, وبذلك يحصل المواطن على دخل غير مشروع, كما يقوم الأجنبي المتستر عليه بتحقيق أرباح طائلة من استغلال التراخيص الممنوحة للمواطن وتكون العلاقة بين الطرفين علاقة سرية ومحصورة بينهما.
وقد صدر قرار هيئة كبار العلماء رقم 91 بتاريخ 22/5/1402هـ بتحريم التستر باعتبار أن المبلغ الذي يحصل عليه المواطن من الأجنبي المتستر عليه مال بلا عوض لا يستحقه فقد حرمه الحق سبحانه في محكم كتابه بقوله تعالى: "ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل". ولهذا أرى ضرورة تفعيل نظام مكافحة التستر لأنها تعد وسيلة فعالة من وسائل تجفيف مصادر الاقتصاد الخفي والقضاء عليه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي