زمن ابن رخيِّص

كان ذلك قبل نحو 150 عاما، في صحارى نجد، في عز الظهيرة، حين يتآزر الهجير مع الرمضاء فلا يجد الظل ما يلوذ به إلا الأعواد أو تحت بطون المطايا. حين إفلات قطرة من الماء إسراف لا يحتمل، حين الزاد إقط وتمر وشيء من الشعير والسمن لمن كان مترفا. حين الطعوس والتلاع والحزوم فخاخ من الذئاب والحنشان والحنشل. حين كابوس الليل تهديد ووعيد بجاثوم النهار. حين يفشل الحداء في تبديد الوحشة والقلق، وحين يشح العزم فيقف عند حدود الرمق.
في قلب هذه الدراما الغامضة العابسة كانت قافلة عائدة من الحج تخوض في التيه وخط الأفق ينأى كلما سار الركب والدرب من مكة إلى الرس في القصيم طويل أو يطول. والرجال على المطايا مكبلين بالعياء ممزقين بين الشوق للأهل والرعب من المجهول وفجأة يسقط أحدهم واسمه (جارد بن ذياب) عن راحلته وتتحطم ساقه، فهو يئن ويصرخ من الوجع.
يشتعل بين القوم صراع القيم والغرائز، بعضهم رأى ضرورة حمل الكسير على الراحلة ومواصلة المسير وعليه أن يتحمل آلامه فهم لا يستطيعون البقاء وإلا أهلكهم العطش وكان يقود هذا الاتجاه صالح بن رخيِّص، فيما جماعة أخرى رأت الانتظار ريثما يجبر عظمه ويكون قادراً على مواصلة الرحلة وكان يقود هؤلاء فتى اسمه خالد العلي، لكن ابن رخيِّص استطاع بحججه استمالة الجميع فقرروا حمله عنوة، فالتفت الكسير مستنجدا بخالد الذي أعلن أنه سوف يبقى معه ونزولا عند إصراره تركوهما ومعهما بعض الزاد والماء ثم مضوا.
حينذاك اهتزت أرض النخوة وربت تحت أقدام الشاعر الفتى خالد العلي وانبجس زمزم الشعر، تدفق من قاع الروح وجرى في آذان الفيافي وعروق الركب يقلبهم على وقع تأنيب الضمير ذات اليمين و ذات الشمال وهو ينزف:
يا ابن رخيص كب عنك الزواريب عمارنا يا ابن رخيص عواري
خوينا ما نصلبه بالمصاليب ولا يشتكي منا الجفا والعزاري
لازم تجيك أمي يكبدها لواهيب تبكي ومن كثر البكا ما تداري
تنشدك باللي يعلم السر والغيب عن ابنها اللي لك خوي مباري
قل لها قعد في عاليات المراقيب في نقرة ما حوله إلا الحباري
يتنى خويه لين يبدي به الطيب وإلا فيجري له من الله جاري
الشاعر هنا يوجه نيران مدافعه لابن رخيِّص، يزدريه ويحمّله مسؤولية تثبيط همم القوم وإقناعهم بترك "خويهم" الكسير بحجة الحرص على حياتهم، ساخرا منه مذكرا إياه بأن كل أعمار البشر مجرد "عارية" يستردها الخالق متى شاء، ومضيفا، بشيء من الزهو، أنه ليس من طينته فأخلاقه وشيمه تأبى عليه إرغام رفيقهم على ما يكره وأنه مهما كان لن يجد منه لا الجفا ولا الأذية، ثم يطلب إليه فقط تبليغ أمه التي سوف تسألهم عنه وهي تبكي عليه بلهفة، أنه اختار البقاء هناك في أعالي الجبل، حيث لا أنيس ولا أحد سوى طيور الحبارى، ليقوم على تمريض صاحبه حتى يشفى أو يأخذ الله أمانته.
تلك هي التراجيديا كما يرويها التاريخ، غير أن ثمالة النشوة التي نثرتها القصيدة فيمن تلبسته تجعلنا نسأل: ترى.. هل زعق خالد العلي هذه القصيدة وهو يرزح تحت ثقل وضغط ذلك الظرف الحرج والموقف المأساوي الصعب؟ أم جاءت لاحقا بعد أن جم في الصدر فيض غيضه على ما اعتبره تصرفا أرعن خسيسا من ابن رخيِّص؟ وهل أراد خالد العلي فعلا من خلالها التشهير عامدا متعمدا بابن رخيِّص لأنه فقط تخلى عن رفيق الرحلة؟ أم لأن هناك ماضيا من الود المفقود بينهما؟!
ثم.. هل كان ابن رخيِّص حقا نذلا لئيما اتخذ من ظروف الصحراء القاهرة ستارا للتغطية على جبنه وأنانيته؟ أم كان فعلا منصاعا لقانون الضرورة منقادا لوطأة الظروف ومذعنا لشراسة المناخ؟ وأن غريزته البيولوجية قادته فخضع، لا إراديا، لها تماما مثلما تفعل الطيور المهاجرة التي تترك مَن لا يقوى منها على مواصلة الطيران في رعاية طير غيره ريثما يسترد عافيته ثم يلحقان بالسرب؟
أيا كان الحال .. فالقصيدة، شاء صاحبها أم لم يشأ، وصمت ابن رخيِّص رغما عنه، ربما بما ليس فيه، بل ربما وصمته فيما هو أصلاً مدعاة للإشادة به على فذاذة وصرامة وشجاعة قراره في مثل ذلك الموقف العصيب حيث لم تعمه رياح العاطفة والشفقة لتجعله يخاطر بإطفاء ذبالة حياة نفوس المسافرين الآخرين معه الذين هم أيضاً كانوا ينخرهم الخوف والجوع والعطش والحنين إلى الديار.
لقد جعل خالد العلي من قصيدته هذه، دون أن يدري ودون أن يقصد، محشرا لنقائض القيم والمواقف. فعلى حين أنها تجعل من المروءة والشهامة والتضحية مناقب لخالد العلي فإنها في الوقت نفسه تجعل من المنطق ورباطة الجأش والبصيرة مناقب لابن رخيِّص. وإذا كان هناك مَن سينظر إلى فعل خالد على أنه نوع من الطيش والتهور باعتباره إلقاء للنفس في التهلكة من أجل فرد فإن هناك أيضاً من سيجعل الطيش والتهور من نصيب ابن رخيّص لاستهتاره بحياة هذا الفرد نفسه.!
وبعد.. هل حين ترتفع أصوات الرجال مع دمدمات الطبول في حلبات السامري وتشهد عواطفهم شامخة بأبيات هذه القصيدة تدور هذه الأسئلة في الأذهان؟ ربما.. وربما رأى أجدادنا غير ذلك.. وربما رأى آباؤنا أقل أو أكثر.. لكن، هل يفهم زمننا هذا .. زمن ابن رخيِّص، أم رفعت الأقلام وجفت الصحف؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي