تمويل التعليم بين الأحادية والتنويع: رؤية مستقبلية

[email protected]

يحظى التعليم بدعم حكومي مستمر يسهل تقديره من خلال ما يخصص لتنمية الموارد البشرية في خطط التنمية أو ما تستأثر به قطاعات التعليم من الميزانيات العامة للدولة، حيث يمثل ما ينفق على التعليم نحو 10 في المائة من إجمالي الناتج القومي، كما تبلغ الميزانية التعليمية نحو 27 في المائة من الميزانية العامة للدولة لهذا العام، هذا بالإضافة إلى الاعتمادات المالية التي يتم توفيرها للتعليم خارج إطار الميزانية العامة. إن هذا الدعم السخي يعبر عن التزام الدولة بواجبها الوطني لتوفير الخدمة التعليمية بوصفها أحد الحقوق الأساسية للمواطنة ولقناعتها التامة بأن الاستثمار البشري هو أفضل أنواع الاستثمار لما يحققه من العوائد المجزية التي يعود مردودها على المواطن والوطن على حدٍ سواء.
وإذا كانت مسألة الدعم الحكومي لقطاع التعليم ليست موضع نقاش أو اختلاف فإن الحوار حول أحادية تمويل التعليم أو تنويعه يظل قضية وطنية تستوجب منا التفكير حيالها بصوت عقلاني مسموع يتم فيه تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة مع الأخذ بعين الاعتبار تعقيداتها المحتملة من منظور مستقبلي. إن نظرة فاحصة لواقع التمويل التعليمي تظهر بوضوح سيادة الطابع الأحادي من خلال الاعتماد شبه الكلي على الدعم الحكومي مع وجود بعض المبادرات المتناثرة لتنويع مصادر التمويل والتي تمثل نسبة متدنية قد لا تتجاوز 8 إلى 10 في المائة من إجمالي الإنفاق التعليمي. وفي المقابل، فإن تزايد الطلب المجتمعي على التعليم الناجم عن الزيادة السكانية لاسيما في شرائح العمر الموازية لسن التعليم التي تمثل نحو 60 في المائة بين إجمالي عدد السكان، كما تشير التوقعات إلى أن إجمالي السكان قد يصل إلى نحو (30) مليون في عام 1440هـ. ومن ناحية أخرى فإن إجمالي الطلبة الملتحقين بقطاع التعليم في ذلك العام سيكون نحو عشرة ملايين مقارنة بإجمالي الملتحقين بالتعليم في الوقت الحالي الذي يبلغ نحو خمسة ملايين
وفي ضوء ما سبق ذكره من معطيات التزايد السكاني، واستناداً إلى بعض المسلمات الاقتصادية التي تؤكد "ندرة الموارد" وعدم قدرتها على الوفاء التام بإشباع جميع الرغبات والاحتياجات الإنسانية مهما تعاظمت اقتصادات الدول فإن مستوى الدعم الحكومي لقطاع التعليم لا يمكن له أن يتجاوز أكثر من 30 إلى 35 في المائة من الميزانية العامة نظراً لالتزام الدولة بتوفير الخدمات في القطاعات التنموية الأخرى، كما أن الميزانية التاريخية لهذا العام قد لا تتزايد على الدوام بمعدلات تتواكب مع الزيادات السكانية المتوالية وانعكاساتها على الطلب المجتمعي للتعليم، لعدة اعتبارات لعل من أهمها تأثرها بتقلبات الأسعار في سوق النفط العالمية.
من هذا المنطلق فإنه لا مناص لقطاع التعليم إلا التحول التدريجي من "النمط الأحادي للتمويل" إلى "نمط تنويع المصادر التمويلية" والعمل على تخفيف الاعتماد الكلي على الدعم الحكومي، تأسياً بتوجه الدولة الاستراتيجي في التقليل من الاعتماد على الإيرادات النفطية كمصدر وحيد ومبادراتها الجادة في تخصيص العديد من الخدمات والأجهزة الحكومية.
في هذا الإطار، تصبح قضية تمويل التعليم أحد المهام ذات الطابع الاستراتيجي التي ينبغي أن تسترعي الاهتمام والأولوية القصوى لدى جميع القيادات التربوية في قطاعات التعليم العام والتعليم العالي والتعليم الفني والتدريب المهني للعمل على تنويع مصادر التمويل من خلال خطة عمل واضحة يراعى فيها "النظرة الشمولية للتمويل"، والتي تستند إلى ثلاثة مبادئ رئيسة: أولها الحرص على استمرار الدعم الحكومي، وثانيها ترشيد الإنفاق والحد من صور الهدر المالي والتربوي الذي يصل إلى نحو 20 إلى 25 في المائة، وثالثها تنويع مصادر التمويل بنسبة لا تقل عن 20 إلى 25 في المائة في ضوء مفهوم " الشراكة المجتمعية " وما يتضمنه من صيغ وأنماط متعددة لإشراك شرائح المجتمع في تحمل جزء من الكلفة التعليمية أو ما أصطلح على تسميته "مشاركة الكلفة " وهو أسلوب تمويلي معمول به في كثير من الدول المتقدمة، مع التركيز أيضاً على مفهوم "الجامعة المنتجة" أو "المدرسة المنتجة" لتنمية الموارد الذاتية للمؤسسات التعليمية.
ومع إدراكنا التام لأهمية إزالة المعوقات المتمثلة في بعض الأنظمة واللوائح المالية التي تحد من تنويع المصادر التمويلية في القطاع التعليمي، وضرورة قيام وزارة المالية باستبدالها بلوائح وأنظمة محفزة تتيح للمؤسسات التعليمية استثمار إمكاناتها ومواردها وتنويع مصادرها التمويلية وتمكنها من استغلال تلك الإيرادات للصرف على أنشطتها وبرامجها وفق نظام محاسبي منضبط يضمن الرقابة المالية، ويتيح للمؤسسات التعليمية - في الوقت نفسه - قدراً مناسباً من الحرية للتصرف في إيراداتها الإضافية، وفقاً لأولوياتها واحتياجاتها المؤسسية، إلا أننا نناشد القيادات التربوية بأن تأخذ قضية التحول في النمط التمويلي على محمل الجد قبل استفحالها، وقبل أن تلقي بظلالها على " جودة التعليم " في المنظور المستقبلي القريب الذي قد لا يتجاوز بضع عقود من الزمن. إن الدعم الحكومي اللا محدود الذي يتمتع به القطاع التعليمي في هذه الآونة ينبغي استغلاله بالشكل الأمثل الذي يكفل ترسية قواعد نظام تعليمي وطني فاعل، لكن تبدو الحاجة ماسة في العمل على تنويع مصادر التمويل للإسهام في الحفاظ على المكتسبات التربوية والتعليمية وضمان استدامتها واستمرارها للأجيال المقبلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي