من عجائب جراحات العظام
تعود قصة تطوير تقنية (إليزاروف) إلى قصة من إيطاليا، فقد أصيب جراح العظام الإيطالي (كارلو مونري) بكسر في ساقه، تطور بعد المعالجة إلى اختلاط كريه، هو (اندمال معيب Mal-union)، متقيح مزمن، مما خلق لجراحي العظام الإيطاليين تحدياً في معالجته، وكادت الحالة تفضي إلى البتر.
وهكذا بدأت جراحة إليزاروف ليس من قصة تطويل الأقزام بل معالجة الكسور التي لاعلاج لها بكسرها، أما كيف ذلك فهذا الشرح:
عندما حمل الجراح الإيطالي شكواه إلى زميل له، أشار عليه بجراح للعظام، صعب الاسم، غامض الشهرة، يعيش في صقيع سيبيريا، ويقوم بجراحات جديدة مثيرة، اسمه إليزاروف - ELIZAROW.
تم طلب مساعدة الرجل فتدخل بطريقته، واستطاع إليزاروف أن يسيطر على الحالة، ويصل بها إلى شاطئ السلامة، فزال القيح، واستقامت الساق، واندمل الكسر، وكان في عرف جراحي العظام عملا يقترب من المعجزة؟
هذه القصة كانت السبب في خروج إليزاروف وطريقته من الشرنقة السوفياتية الماركسية.
خرج إليزاروف من الشرنقة الضيقة، ليطير إلى العالم بجناحي فراشة جديدة، وبذلك ولد علمه في العالم، وكتب له النماء، وسادت طريقته، وأصبحت منهجاً قائماً بذاته ومدرسة معترفا بها في المعالجة.
والآن ما هي الإثارة في طريقة إليزاروف؟ ما هو الجديد فيها؟ في فن جراحة العظام؟ وأية أفكار تسيطر على نواتها؟؟ وأية منهجية توجه حركتها؟ بل لنقل أين الإبداع في هذه الطريقة؟
في جو الصقيع والبرد الرهيب في (كورجان) جلس إليزاروف لفترة تزيد على ربع قرن، وهو يتأمل الواقع البيولوجي، محاولاً اكتشاف أسرارٍ جديدة، وإيقاظ قوى مجهولة، وتحريض معادلات غامضة، واكتشاف آليات لا تطفو على السطح. كان عليه قبل كل شيء كسر المسلمات السابقة، والأيديولوجيات الدوغمائية، في المعالجة الجراحية، لأن جوهر الإعاقة العقلية هو ما أشار إليه القرآن الكريم (ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين).
إن جوهر حركة التاريخ هو التطور.
إن الحياة مليئة بالأسرار، والسر يحرك شهية المعرفة، ويفتح روح الفضول للاكتشاف.
كان إليزاروف يرصد الواقع البيولوجي، لاكتشاف كلمات الله، التي هي قوانين الوجود المغيبة، والتي سُخر الكون كله بموجبها؛ فالكون يتسخر، أي يخدم مجانا، في اللحظة التي يتم فيها الكشف عن القانون، ثم يسيطر عليه فتتسخر الأشياء، فترتفع المصاعد وتضيء الكهرباء بعد أن كانت صاعقة تم حبسها في سلك.
لقد قبع إليزاروف هناك في الصقيع، يفكر ويقدر؛ فوصل إلى فهم ثوري جريء يعد قلباً لكل مفاهيم جراحة العظام.
في التصور القديم يبقى القزم ضئيلاً، ومن أصيب بالتشوه أضحى قدراً لا يمكن تغييره، وبذا فهمت العضوية على نحو جامد ثابت لا يتغير.
إن فهم الوجود على أنه كم ثابت يمثل نصف الحقيقة.
دخل دماغ إليزاروف إلى مخ العظام لفهم آلية نمو العظام، وعلاقتها بالأنسجة المحيطة بها؛ فقلب المفاهيم السائدة؛ فقال: إذا كان الكسر ينشِّط النمو، فيندمل الكسر، أي أن الكسر هو الذي يحرض آلية النمو، فما المانع أن أسخر هذه الآلية، وأضع يدي على سرها؟
ليس أن أرد كسراً، بل أكسر عظماً سليماً؟!
فهذا هو جوهر فكرة إليزاروف..
هي بسيطة ولكنها رائعة وانقلابية.
هي جميلة وساحرة، وجمالها يأتي من بساطتها.
فكرة إليزاروف تقوم ليس على تجبير العظام ورد الكسور، بل كسر العظام وتحريض النمو في العظم والأنسجة المتصلة به من عصب وشريان وعضلات وفي النهاية الجلد الذي يتمطى!
وهكذا أمكن مط الأقزام من متر إلى مترين لو أراد الجراح، فكل يوم يمكن مط العظام والأنسجة بمقدار ملليمتر واحد.
وفي الصور التي عرضها إليزاروف أثناء زيارته منطقة القصيم قبل أن يموت في رحلته إلى اليابان، عرض صورا لأقزام وصلوا أكثر من 180 سنتيمترا، آية للمتوسمين..
وعرضت مجلة الشبيجل الألمانية، تقنية جديدة، طورتها شركة ألمانية لعمود من الحديد، يوضع داخل العظام، ويتم مطه، بالريموت كونترول من الخارج، فالطريقة القديمة، هي أطواق، فوق الأطواق من حديد، تدور حول السيقان والأفخاذ، تدعمها أعمدة من الحديد الموصل بين الدوائر، مما تشكل إعاقة في حياة المريض ونومه واحتكاكه بالعالم المحيط به، وبهذه الطريقة تمت الاستفادة من الطريقة القديمة وتطويرها، وهكذا يتم تطور العلم بآليتي الحذف والإضافة، فيصل إلى ما هو خير وأبقى، ولا يبقى شيء على حاله، بل هو كل يوم في شأن، فتبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام..