النفط بين "وطنية" المنتجين و"وطنية" المستهلكين

[email protected]

كثرت في الفترات الأخيرة الكتابات والتقارير التي تدعي أن أحد أسباب ارتفاع أسعار النفط، وأحد أسباب استمرار أسعاره في الارتفاع في المستقبل، هو تفشي ظاهرة "الوطنية" في الدول المصدرة للنفط, خاصة في فنزويلا, روسيا, وإيران، وإصرار كبار الدول المنتجة، خاصة السعودية، على عدم السماح لشركات النفط الأجنبية بالاستثمار في قطاعها النفطي. تبنى بعض الخبراء الغربيين هذه الفكرة وبدأوا في تسويقها في المحافل الدولية والمؤتمرات الإقليمية. بالطبع ليس من المستغرب أن يقوم موظفو وكالة الطاقة الدولية بالترويج لهذه الفكرة، ولكن المستغرب أن يقوم بعض الكتاب العرب، حتى في الصحف الخليجية، بالترويج لها، ربما لأنهم يترجمون عن الصحف الأجنبية.
يذهب هؤلاء الكتاب والخبراء الغربيون، والسياسيون الذين يبحثون عن مثل هذه الكتابات، إلى أبعد من ذلك ليوضحوا أن أحد الأخطار المحيطة بصناعة النفط العالمية هو أن أغلب الاحتياطيات العالمية مملوكة من قبل شركات النفط الحكومية وليس من قبل شركات النفط العالمية، ولكنهم يعجزون عن توفير دليل واحد يوضح أن زيادة سيطرة شركات النفط العالمية على مزيد من الاحتياطيات ستسهم في تحسين أوضاع أسواق النفط العالمية، حتى من وجهة نظر المستهلكين.
الغريب في الأمر أن هؤلاء الناس يتجاهلون حقائق عدة، ويتجاهلون التناقضات الكبيرة التي يقعون فيها. وهذه هي أهم التناقضات:
1 ـ في الوقت الذي يهاجم فيه هؤلاء موجة "الوطنية" في الدول المنتجة، يتجاهلون موجة "الوطنية" في الدول المستهلكة الداعية ليس فقط إلى وقف الاعتماد على النفط المستورد، وإنما أيضاً إلى وقف الاعتماد على النفط نهائياً. هل الوطنية "حرام" على المنتجين و"حلال" للمستهلكين؟ هل تناسى هؤلاء أن "وطنية" الدول المستهلكة هي التي دفعتها إلى بناء احتياطيات استراتيجية ضخمة؟ هل تناسوا أن هذه الوطنية هي التي دفعت الدول الأوروبية إلى فرض ضرائب ضخمة على النفط لدرجة أن عوائد النفط الأوروبية في بعض السنوات كانت أعلى من عوائد الدول المنتجة له؟ هل تناسى هؤلاء أن مخطط الرئيس جورج بوش (الأب)، ثم الرئيس بيل كلينتون من بعده، لزيادة استثمار شركات النفط الأمريكية في أمريكا اللاتينية نتج عن "وطنية" أمريكية في محاولة لتقليل الاعتماد على نفط الشرق الأوسط؟ هل تناسى هؤلاء أن زيادة اعتماد الولايات المتحدة على الإيثانول، رغم أن ذلك يتعارض مع كل القواعد الاقتصادية، ما هو إلا "وطنية متطرفة"؟ هل تناسى هؤلاء، وهم الذين انتقدوا مقاطعة المسلمين المنتجات الدنماركية، أن كثيراً من الكنائس الأمريكية طالبت أعضاءها بأن يمارسوا "وطنيتهم" عن طريق الامتناع عن عدم شراء البنزين من محطات معينة لأن الشركات المالكة لها تستورد النفط العربي؟
2 ـ في الوقت الذي يطالب فيه هؤلاء بتخفيض الاعتماد على النفط المستورد، أو إلغاء الاعتماد على النفط، يطالبون بأن تقوم شركاتهم بالسيطرة على منابع النفط في الدول المنتجة! إذا كانوا يريدون التخلص من النفط، لماذا يريدون الاستثمار فيه؟ إذا كانوا يريدون تقليص وارداتهم من النفط، لماذا يرسلون شركاتهم إلى ما وراء البحار؟ إذا كانوا فعلاً ضد النفط وضد الاعتماد عليه فإن عليهم أن يستفيدوا من تفشي ظاهرة الوطنية في الدول المنتجة لأنها تخدم مصالحهم وأهدافهم في تخفيف الاعتماد على النفط.
3 ـ في الوقت الذي يهاجم فيه هؤلاء شركات النفط الوطنية ويطالبون بفسح المجال لشركات النفط العالمية للاستثمار في الدول المنتجة، يتناسى هؤلاء أن هذه الشركات العالمية نفسها تعمل في الدول المنتجة بعقود مجزية، وتقدم التكنولوجيا والخبرات للشركات الوطنية مقابل أموال ضخمة. هل المشكلة إذا هي تملك الاحتياطيات؟ كيف يؤدي تملك الاحتياطيات على الورق إلى تغيير أوضاع أسواق النفط العالمية؟
4 ـ في الوقت الذي يطالب فيه هؤلاء الدول المنتجة بالسماح لشركات النفط العالمية بالاستثمار فيها، يقوم هؤلاء بمهاجمة الشركات العالمية نفسها لجنيها أرباحا تاريخية ضخمة ويهددون بفرض ضرائب على هذه الأرباح.
5 ـ إذا كانت شركات النفط الوطنية هي "المشكلة"، أليس الأولى أن يطالب هؤلاء الكتاب والسياسيون شركاتهم الوطنية مثل "إكسون موبيل", "كونوكو فيليبس", "بي بي", و"شل" بعدم التعاون مع شركات النفط الوطنية؟
6 ـ إذا كان النفط هو المشكلة، لماذا يستثمر أغلب أغنياء أمريكا، بمن فيهم كتاب "نيويورك تايمز" وأعضاء الكونجرس ومجلس الشيوخ المعادون للنفط في أسهم شركات النفط، بما في ذلك شركات النفط الصينية؟ هل حدود وطنية هؤلاء هي "الدولار"؟
7 ـ إذا كانت سيطرة شركات النفط العالمية على حقول النفط ستحل مشكلات الطاقة، لماذا مازالت حكومات هؤلاء الكتاب والسياسيين تملك حقول النفط في خليج المكسيك وبحر الشمال؟ هل يحق لأمريكا وبريطانيا والنرويج ما لا يحق لدول "أوبك" وغيرها؟
في الختام، النفط سلعة عالمية، وأسواق النفط عالمية، وأسعار النفط عالمية، وأي مزايدات وطنية سواء من الدول المنتجة أو المستهلكة ستذوب في خضم هذه البحر الكبير.. الدول المنتجة ستبيع النفط لمن يدفع الثمن، والدول المستهلكة لن تقوم بأي تضحيات تخفف من مستوى المعيشة فيها. إن أهم ما يميز أعداء النفط في الولايات المتحدة أنهم يتاجرون بـ "الوطنية" لأنهم يقودون سيارات عائلية كبيرة اشتهرت باستهلاكها الكبير للبنزين.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي