الإنسان بين الذئب والإنسان

[email protected]

وردت كلمة الذئب في سورة يوسف, عليه السلام, وذلك حين تقدم إخوته بطلب إلى أبيهم بهدف السماح لهم باصطحاب يوسف معهم إلى البر حين تردد وامتنع عن الموافقة على هذا الطلب, وذلك خوفاً عليه من أن يأكله الذئب في غفلة منهم وهم يلهون ويلعبون, لكن إصرار الإخوة على طلبهم جعل الأب يستجيب ويوافق على ذهاب يوسف مع إخوته, وبقية القصة الجميع يعرفها حين عاد الإخوة ومعهم قميص يوسف وقد لطخوه بالدماء وادعوا وافتروا على الذئب أنه أكل يوسف. هذه القصة تكشف عن حقيقة أن الذئب حيوان مفترس للإنسان وللحيوانات الأليفة كالأغنام والأبقار وغيرها, لكن ما حدث في قصة يوسف ادعاء وكذب إذ لم يتعرض يوسف لاعتداء من الذئب بل إن الاعتداء حصل من إخوته وأقرب المقربين منه, وذلك حين تحركت الغيرة في نفوسهم من تقريب أبيهم ومحبته له مما أثار مشاعرهم وأدخلهم في دائرة الحسد والكراهية لأخيهم نظراً لما له من حظوة لدى أبيهم. ومثل هذه المشاعر تحدث في علاقات الناس بعضهم ببعض سواء كانوا أقارب أو غير أقارب, ولذا جاء النهي النبوي عن التمييز في المعاملة بين الأبناء تجنباً لمشاعر الحقد والكراهية والغيرة وسعياً إلى تأليف القلوب والمحافظة على تماسك الأسر والبيوت. ولو تمعنا في هذه القصة وربطناها بالواقع لوجدنا أن بعضاً من الناس صار الذئب أرحم منهم على بعضهم, إذ إن التناحر والتقاتل والمكائد صارت هي البديل للمحبة, وقد تأملت في بيت الشعر القائل:
عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى وصوت إنسان فكدت أطير فتساءلت: كيف يكون عواء الذئب المخيف في اسمه, المخيف عواؤه والمعروف عنه شراسته وفتكه, كيف يكون الذئب مؤنساً ومريحاً وباعثاً على الاطمئنان والثقة بينما الإنسان الآخر يثير الخوف والفزع في نفس من يسمعه أو يحس بوجوده؟ ترى ما الذي حدث من انقلاب في نفوس الناس ومشاعرهم واتجاهاتهم وسلوكهم كي يكون الذئب باعثاً على الطمأنينة؟!
إن المدخل الطبيعي لتناول هذا الموضوع وتفسير واقع حال الناس هو البناء النفسي الذي تشكل لديهم وأحدث لديهم مشاعر من نوع مختلف وطرق تفكير غريبة. التراث الإداري والتراث النفسي مملوء ويزخر بالكثير حول العلاقات الإنسانية وأسس هذه العلاقات والمنطلقات والدوافع التي تحكمها وتوجهها, لكن ما يشاهد يختلف وبعيد عن كثير من هذه المبادئ. إن الثقافة السائدة في الوقت الراهن أخذت منحى التمركز حول الذات وأصلت الطمع والجشع والتنافس غير الشريف وذلك من خلال قنوات وآليات الثقافة السائدة كالأفلام وبرامج العنف والقتل والسطو, وهذه بدورها أحدثت لدى الناشئة قيماً مغايرة لقيم التسامح والإخاء والمودة بين الناس.
إن النفوس التي تفكر من خلال شهواتها وغرائزها لن يكون أمامها سوى البحث عن الأساليب والطرق التي تشبع هذه الرغبات بغض النظر عن مشروعية هذه الأساليب أو الأضرار الناجمة عنها على الآخرين. الكل يعلم أن الإنسان لديه الكثير من الدوافع والغرائز ولا يستريح ويطمئن حتى يشبع هذه الغرائز, فالجنس والتملك والإنجاز, كلها حاجات لا بد من إشباعها لكن الثقافات تختلف في آليات وأساليب إشباعها, فالثقافات المتخلفة لا ترى مانعاً من إشباع هذه الحاجات بأي طريق يستطيع المرء القيام بها بغض النظر عن اتفاقها مع القيم الإنسانية ومع الشرائع, بينما ثقافات أخرى ترى أهمية تنظيم إشباع هذه الحاجات بالطرق المشروعة والمتفقة مع القيم والشرائع السماوية وحسب النظم وذلك حتى لا تتحول المجتمعات الإنسانية إلى مجتمعات بهيمية يعيث فيها القوي ويهيمن على الضعيف.
إن ثقافة الاستعلاء وثقافة ممارسة القوة أحدثتا مفاهيم ومصطلحات جديدة في قواميس المجتمعات وقواميس العلاقات الدولية, إذ كثيراً ما نسمع عن مصطلح الذئاب البشرية, وذلك لوصف بعض الأفراد الذين أعطوا لأنفسهم حق الاعتداء على الآخرين وسلب حريتهم وتمريغ كرامتهم والاعتداء على ممتلكاتهم وسلب خيراتهم. كما نجد على المستوى الدولي الصراعات الدولية والحروب واحتلال الدول والاستعمار ونهب الثروات, وكل هذا يتم وفق سياق ثقافي عملت وسائل الإعلام على ترويجه وتثبيته في عقول الناس, إذ نجد عبارة لا سلام من دون قوة تتكرر على ألسنة الساسة الغربيين الذين يرون أن القوة وامتلاكها حكر عليهم ويحرم منها الآخرون. كما نجد أن السطو المسلح الذي يحرم على الأفراد فعله تقوم به دول مع دول أخرى دونما رادع من قانون دولي أو قيم, ولذا فلا غرابة أن يشيع مصطلح قانون الغاب للتعبير عن الوضع الذي آلت إليه الأمور على المستوى الدولي وأصبحت السيادة فيه لمن يملك القوة ويجيد الفتك بالآخرين. لقد وجد الغربيون في القوة واستخدامها ضد الآخرين أسلوباً للابتزاز والاستئثار بالرفاه على حساب الآخرين وثرواتهم وخيراتهم مما تشكل معه نزعة العدوانية والجشع اللذين أجهزا على النزعة الإنسانية عند بعض الناس وفي المجتمعات الغربية بالذات حيث استحوذ التفكير المادي الصرف على سياسات الدول وعلاقاتها بالآخرين, ما جعل الذئب أكثر رقة وحنوا من الإنسان الذي صار ديدنه السلب والنهب والقتل ولذا لا غرابة أن نجد الإنسان يهرب من أخيه الإنسان ويجد الدفء في حضن الذئب.
أعتقد أن تجربة الإنسان مع الذئب ومع الحيوانات المفترسة في الغابات والأدغال ليست بالسوء الذي وجد من أخيه الإنسان الذي جاءه مستعمراً لأرضه مستعبداً له ومضيعاً لكرامته. الأوربيون عندما استعمروا إفريقيا وأمريكا الجنوبية ودولاً في آسيا استباحوا كل شيء ولم يعد لديهم محرمات بما في ذلك القتل وسلب الثروات بل استخدام أهل الأرض الأصليين بعبودية لا نظير لها بغرض استخراج الثروات والمعادن حتى أفقرت القارة وظل الفقر والجهل والمرض مهيمنة عليها, وحل بها التشرذم وسلبت الهوية ما أفقدها لغاتها الأصلية وعاداتها وتقاليدها.
الغريب في الإنسان أنه روض الحيوانات المفترسة واتخذها أصدقاء له ودرسها ولعب معها, لكنه فشل في تعديل سلوكه وفي تهذيب اتجاهاته لتصبح أقرب إلى النزعة الإنسانية. الوضع الطبيعي أن يكون الإنسان قريباً من أخيه الإنسان متلمساً احتياجاته عوناً له في مشوار حياته لكن الثقافة السائدة تحجرت بسببها مشاعر الإنسان وضاعت في زحامها قيمه حتى أصبحت مشاعر التدمير والقتل لا تعني له شيئاً, ولذا لا غرابة أن يقترب الإنسان المسالم ذو القيم والمبادئ والثقافة السامية ويأنس بالذئب أكثر من أنسه بذلك الإنسان المتوحش. وحري بنا أن نسأل أين نحن من "المؤمنون في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر"؟ فهل نسعى لنجعل من هذا الحديث أساساً في علاقاتنا الداخلية وجزءاً يجب مراعاته في العلاقات الدولية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي