المياه .. وتجارب الآخرين
يشهد قطاع المياه في المملكة حراكاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة على أكثر من جبهة، فهناك خطوات لإعادة هيكلة مرافق التوزيع, حملة لترشيد الاستهلاك, مشاريع ضخمة للتحلية وأخرى لتشغيل تجهيزات المياه والصرف الصحي بمشاركة القطاع الخاص, وغيرها. لكن على الرغم من تلك الجهود تبقى مهمة المحافظة على نمو مستدام في ذلك القطاع ملفاً صعباً نتيجة تصادم واضح بين الكثير من المعطيات المتضاربة التي تستمد جذورها وتراكماتها من مرتكزات اجتماعية, اقتصادية, سياسية, واستراتيجية. فبينما تُصنف المملكة ضمن الدول الفقيرة في مواردها المائية الطبيعية المتجددة, تحتل مركزاً متقدماً عالمياً في معدلات استهلاك الفرد للمياه, وكذلك الحال في البون الشاسع بين التكلفة العالية لإنتاج المياه المحلاة والتعرفة المطبقة حالياً.
إن وجود نمو مستدام في قطاع ما يعني القدرة على تلبية الطلب بشكل منتظم على المدى الطويل في بيئة إنتاج متوازنة الجوانب أهمها التكلفة وما يقابلها من أسعار أو تعرفة يدفعها مستهلكو تلك السلعة/ الخدمة. وفي ظل ندرة مصادر أخرى للمياه, يكاد يكون التوسع في محطات التحلية في المملكة الخيار الوحيد لمواجهة الاستهلاك المتزايد في مياه الشرب. إلا أنه على الرغم من التقدم التقني في وحدات إنتاج المياه المحلاة تظل الفجوة بين تكلفة الإنتاج والتوزيع وبين التعرفة الحالية واسعة. إذ لا تزيد التعرفة على 5 في المائة فقط من التكلفة الحقيقية, بينما بلدانٌ غنية بمصادر طبيعية ضخمة للمياه من أنهار, بحيرات, وأمطار كفرنسا مثلاً تتقاضى مبلغاً يزيد على ثمانية ريالات للمتر المكعب من مياه الشرب مقارنة بمبلغ عشر هللات فقط يدفعه صغار المستهلكين في المملكة عن الشريحة نفسها.
لكن تلك المتناقضات في قطاع المياه ينبغي ألا تثنينا عن خطوات الإصلاح الهيكلية المطلوبة لإدخال القطاع الخاص كلاعب أساسي ضمن تركيبته, على أن يتم البحث عن معالجة مبتكرة لتقريب الفجوة بشكل متدرج بين التكلفة والتعرفة ضمن رؤية شمولية هدفها مراعاة مجموع ما يدفعه المواطن من جيبه لقاء استهلاكه باقة الخدمات الأساس من ماء, كهرباء, اتصالات, وغيرها.
من جانب آخر فإن الفرصة مهيأة أمام قطاع المياه للإفادة من تجارب الآخرين في تصميم برنامج التخصيص وتنفيذه. إذ منذ أن أعلنت المملكة قبل عشر سنوات تقريباً تبنيها سياسة إشراك القطاع الخاص في تطوير المرافق العامة وإدارتها, تبلورت تجارب ناجحة في ذلك السياق في كل من الموانئ البحرية والاتصالات تقدم دروساً يمكن تجييرها لصالح قطاعات أخرى كالمياه مثلاً, من تلك الدروس:
أولاً: القوانين والرقابة والإشراف كلها أدوات مهمة لتنظيم عملية التخصيص. غير أنها لا تغني عن الدور المهم لعنصر المنافسة. إذ مهما بلغت شمولية القوانين ودقتها لن تمثل رادعاً كافياً لمنع التسيب والاستغلال أو حافزاً لترشيد استخدام الموارد ورفع مستوى الأداء كما هو الحال في وجود المنافسة. وفي مشاريع التحلية الرئيسة تحديداً ينبغي عدم السماح لأي مستثمر بأكثر من مشروع واحد وإن جاء تحت اسم مختلف أو ضمن تحالف آخر بل حتى إن عرض سعراً أفضل من الآخرين!
ثانياً: هناك معايير إنسانية واجتماعية للتخصيص لا تقل أهمية عن المعايير الاقتصادية. إذ إن نجاح أي برنامج للتخصيص يجب ألا يكون على حساب المجتمع بإضافة أعباء مالية عليه لا تقابلها أية منفعة ملموسة له. ولا بد للبرنامج أن يستقي عوائده الاقتصادية من ترشيد استخدام الموارد وحسن الإدارة, ورفع مستوى الأداء وتقديم خدمات جديدة.
ثالثا: إعطاء الأولوية في التخصيص للمرافق والمشاريع الناجحة يعد عاملاً مشجعاً لجذب استثمارات القطاع الخاص, إذ يقلص عنصر المخاطرة في حساباتهم وهذا من شأنه زيادة عائدات الدولة من عملية التخصيص. ثم هناك عامل آخر وهو العامل النفسي حيث لا بد من بناء الثقة بسلامة مسار التخصيص, وهذا لا يتحقق إلا بتقديم نماذج ناجحة. أما المرافق المتعثرة فلا بد أولاً من إصلاحها وتأهيلها بقدر المستطاع قبل طرحها للتخصيص.
رابعاً : تقويم الأصول أمر بطبيعته ينطوي على تعقيدات وتباين في وجهات النظر اعتماداً على الجانب الذي يقف فيه المراقب. وهناك برامج تخصيص ناجحة, من بينها برنامج تخصيص خدمات الموانئ السعودية, تجاوزت هذه العقبة بإبقاء الأصول والمنشآت في ملكية الدولة وأسـُند للقطاع الخاص فقط حق الانتفاع باستخدام الأصول لتقديم الخدمة وفق ضوابط وترتيبات محددة تشتمل على برنامج استثمار لتطوير تجهيزات المرفق ورفع كفايته.
خامساً: منح المستثمرين فترات كافية لاسترداد استثماراتهم من شأنه أيضاً خفض تكلفة إنتاج الخدمة وتقديمها, وتوفير فرص أفضل لتدريب وإحلال كوادر سعودية في وظائف ذات رواتب مجزية. وهذا الدرس قد يدعو وزارة المياه والكهرباء لإعادة النظر في فترة السنوات الست التي حددتها لعقود تخصيص قطاع المياه والصرف الصحي بنظام الشراكة.
وأخيراً فإن نجاح عملية التخصيص يعتمد إلى حد كبير على مدى رضا جميع الأطراف واطمئنانهم، بما في ذلك المستفيدون من الخدمة, إلى سلامة الإجراءات ومن ثم لا بد من أن تكون هناك درجة عالية من الشفافية والمصداقية في جميع الخطوات.