أحلامنا في الإسكان ( 2 / 2 )

[email protected]

أصبح واقع هيكل السكان في بلادنا بصبغته الشبابية الواسعة ووتيرة نموه العالي يفرض نفسه علينا للتصدي بجدية لمشكلة الإسكان في مجتمعنا. فالمتوقع أن 60 في المائة ممن سيشغل المساكن الجديدة سيكون من الشباب الذين تبدأ أعمارهم من 25 سنة. لكن هذا القطاع لم يحظ بعد بالاهتمام والتطوير الذي يستحقه ويناسب الحاجة التي تفرضها دواعي معدل نمو السكان العالي، فضلا عن أهمية الإنفاق على المباني السكنية الجديدة كواحد من أهم أنواع الاستثمارات التي ستسهم في تنويع مكونات الدخل القومي. إذ يشكل العقار الإسكاني نحو 70 في المائة من مجمل القطاع العقاري في بلادنا، وهو القطاع الذي يأتي في المرتبة الثانية في اقتصادنا من حيث الحجم بعد قطاع النفط والغاز!
وقد أكدت بعض الدراسات وجود عجز في المعروض من الوحدات الإسكانية تقدر بنحو 509 آلاف وحدة خلال الـ 15 سنة المقبلة. وهذه الحقائق تعكس حاجة البلاد العاجلة إلى تطوير منظومة قطاع الإسكان من جوانبها القانونية والتنظيمية والفنية والتمويلية كافة. إن هذه الفجوة بين العرض والطلب تعكس فرصا استثمارية كبيرة، لكنها في الوقت نفسه تنذر بخطر تحولها إلى أزمة إسكانية حادة، إذا لم نشرع في تذليل العقبات الكبيرة التي تحول دون تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في هذا القطاع. ونظرا لضخامة المبالغ المطلوبة لتلبية الطلب المتوقع على الوحدات السكنية خلال الـ 20 سنة المقبلة والتي تقدر بنحو 4.2 تريليون ريال، فلن تستطيع الدولة ولا البنوك منفردين توفير هذا المبلغ الضخم دون تطوير منظومة تمويل متكاملة تسمح بتكوين أسواق أولية وثانوية وتطوير الأدوات اللازمة لتمويل هذا الطلب الكبير على المساكن الجديدة. لكن العقبة الكأداء التي تحول دون نهوض البنوك لتطوير هذه الأدوات والإسهام في توفير التمويل اللازم لقطاع الإسكان هو حاجتها إلى مزيد من الضمانات المتعلقة بتوثيق الرهون وسرعة التنفيذ عليها.
ولذلك ليس غريبا أن نلاحظ انقلاب صورة مصادر التمويل عندنا عن ما هو معتاد ومشاهد في أغلب بلاد الدنيا. فبينما تكون البنوك مصدر التمويل الأساسي لشراء الوحدات السكنية، نجد أن 85 في المائة من السعوديين يستخدمون أموالهم الشخصية في تمويل بناء المنازل أو شرائها، بينما يلجأ فقط 5 في المائة منهم للبنوك لاستيفاء حاجتهم من التمويل.
إن بلادنا لا تعاني من ندرة رؤوس الأموال فالقطاع المالي زاخر بسيولة عالية، لكنه في حاجة ملحة لعدة أنظمة. يأتي في مقدمتها نظام للرهن العقاري وتوثيق ملكية الوحدات العقارية. وهذه الأنظمة في الواقع هي أساس لأي استثمار اقتصادي طويل الأجل. لأنها الطريق الذي سيسهل دخول القطاع العقاري في الدورة الاقتصادية، ويسمح بجذب السيولة النقدية اللازمة لقطاع الإسكان عن طريق رهن الأصول العقارية. بينما القروض العقارية كما هي في السوق اليوم تواجه مخاطر عديدة في ظل غياب مثل هذا النظام.
وفي الوقت نفسه، هناك أيضا حاجة ماسة لنظام للتمويل العقاري وآخر لشركات التمويل وخاصة نظام التأجير التمويلي. وبجانب هذه الأنظمة، يحتاج رجال الأعمال إلى أن يلمسوا تحسنا واضحا في إجراءات تسجيل الرهون، وتطورا نوعيا في أساليب الرقابة القضائية المتعلقة بطرق التسجيل والتوثيق.
إن أنظمة الرهن العقاري وتوثيق الملكيات مسألة حيوية وضرورية لتوفير الضمانات اللازمة لجذب الممولين سواء من البنوك أو الوسطاء الماليين العاملين في الأسواق المالية، كصناديق التقاعد والتأمينات الاجتماعية ونحوها. فإذا توافرت هذه الضمانات لهم أمكنهم توفير التمويل اللازم لنشاط الإسكان بتكاليف مناسبة ومخاطر متدنية. وحينها يتحقق الاستقرار في المعاملات بين الأطراف الثلاثة، البنوك الممولة للنشاط الإسكاني، وشركات العقار المطورة له، وكذلك المشترين. وغنى عن البيان، أن مثل هذه الأنظمة في حاجة دائما إلى دعم الدولة خاصة في فترة التأسيس باعتبارها مسألة قانونية وتنظيمية هي من صميم عمل الحكومات.
إنها سلسلة من العلاقات يعتمد بعضها على الآخر، وغياب واحد منها يعطل بقية السلسة. فالبنوك لن تستطيع جذب الإيداعات أو تكوين الصناديق العقارية وجذب الأموال لها دون توافر ضمانات كافية، وإجراءات تقاضي فاعلة عند متابعة القروض. وشركات العقار المطورة تحتاج بدورها إلى من يقدم لها التمويل بتكاليف منافسة ولفترات زمنية تتوافق مع إنشاء وتسويق المشاريع. أما في ظل غياب مثل هذه الأنظمة فلن يكون في مقدور هذه الشركات بيع الوحدات السكنية على الخرائط (كما يحصل في الدول المجاورة لنا)، نظرا لتدني الثقة عند المشترين مما يؤدي إلى تأخير تسويق المشاريع حتى اكتمال إنشائها وهذا يزيد من التكلفة ومستوى الخطر على المطورين والمشترين.
إن تطوير قطاع الإسكان إلى جانب تطوير أنظمة الرهن العقاري وتوثيق الملكيات، يحتاج إلى قيام شركات إسكان كبيرة كما حدث في دبي بظهور شركة إعمار التي أحدثت ثورة في قطاع الإسكان في هذه الإمارة. وهذا ما يستدعي دعم وتشجيع رجال الأعمال السعوديين لإنشاء شركات تطوير عقاري عملاقة ومحترفة، تقوم بدور صانع للسوق وتكون قادرة على تسريع نضج السوق وتطويره من خلال تبنيها إنشاء أحياء سكنية متكاملة بأعداد كبيرة، بحيث يمكن تسويقها خلال فترة لا تزيد على فترة أجل التمويل المستخدم.
وأخيرا، فإنه مما لاشك فيه أن هذه المنظومة تتطلب أيضا رفع القدرة الشرائية للمواطنين لتمكينهم من شراء المساكن بضمان دخولهم الشهرية. فقيمة الإيجارات التي يدفعونها تصلح لأن تكون أقساطا لتملك المساكن وهذا يقتضي تطوير أنظمة التقاضي والتنفيذ التي تحفظ حقوق البائع والممول والمشتري.
الفرص الاستثمارية في بلادنا كبيرة وما نحتاج إليه هو أنظمة تحفظ الحقوق وتحقق الاستقرار في المعاملات، وتسمح بنموها ورواجها. إذا ظلت الفرص والأنشطة مقتصرة على فئة محدودة من المحظوظين، فالعواقب الاقتصادية لن تسر أحدا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي