لماذا هذه الموجة من الصراعات الطائفية والمذهبية؟

[email protected]

السؤال الكبير المزدوج الذي يخيم اليوم على الجميع في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط بكل تركيبهما المعقد دينياً ومذهبياً وعرقياً ولغوياً هو: ما الذي أدى إلى اندلاع تلك الموجة الواسعة الخطرة من النزاعات بل والصراعات ما بين الفئات والطوائف على تلك الأسس السابقة انطلاقاً من العراق؟ ثم ما مستقبل تلك النزاعات والصراعات ومدى تأثيرها في مستقبل هاتين المنطقتين شديدتي الأهمية والحساسية بالنسبة للعالم كله؟ ولا شك أن السؤالين، أو السؤال المزدوج، قد حظيا بآلاف من محاولات الإجابة عنهما خلال السنوات الماضية، وخاصة تلك الأربع الأخيرة التي بدا واضحاً فيها مدى التزايد في حدة تلك النزاعات والصراعات القائمة على أسس دينية أو مذهبية أو عرقية أو لغوية في منطقتي العالم العربي والشرق الأوسط. ومع ذلك فلا يزال السؤالان قائمين وملحين ويتصاعد خطرهما يوماً بعد آخر إلى درجة باتت تستلزم محاولة جديدة للإجابة عنهما.
فأما عن الأسباب والدوافع التي كمنت وراء تلك الموجة الجديدة الواسعة من النزاعات والصراعات الطائفية والمذهبية، فهي عديدة ومتنوعة ومتفاوتة الوزن والتأثير في إثارتها. فقبل كل شيء يجب الانتباه إلى ذلك العامل الدولي الذي مثلته موجة العولمة الواسعة التي اجتاحت كل مناطق العالم خلال السنوات العشر الأخيرة، وسعت إلى دمج كل ثقافات وشعوب ومجتمعات العالم المختلفة ضمن نمط واحد غربي المنشأ والمضمون، وكان الإعلام ووسائل الاتصال وأدوات السياسة وأحياناً القوة المسلحة هي أدواتها للوصول إلى ذلك التنميط الجديد للعالم كله.
ومن المعروف لدى دارسي العولمة وتداعياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، أنها أثارت مخاوف عميقة لدى مختلف الشعوب والجماعات القومية والدينية والعرقية على هوياتها وانتماءاتها الأولية، الأمر الذي دفع بمعظمها إلى المزيد من التمسك بها والعودة إليها بصور مختلفة بما في ذلك التنازع فيما بينها وصولاً إلى درجات مختلفة من الصراع.
وقد عرفت مختلف مناطق العالم تلك العودة للهويات والانتماءات الأولية وما رافقها من نزاعات وصراعات أحياناً، وكانت القارة الأوروبية مسرحاً لذلك عدة مرات أبرزها الحروب الدامية التي شهدتها مناطق يوغسلافيا السابقة ومناطق عديدة أخرى من شرق ووسط أوروبا. وضمن هذا السياق لم يكن العالم العربي والشرق الأوسط بعيدين عن تلك الظاهرة التي عمت العالم في ظل موجة العولمة الغربية العاتية وبخاصة جوانبها الثقافية والاجتماعية.
وبالعودة إلى العوامل التي عرفتها المنطقتان بداخلهما، يبدو في البداية واضحاً ذلك المتعلق بالحضور الطاغي للتاريخ ووقائعه لدى الغالبية الساحقة من الجماعات المختلفة دينياً ومذهبيا وعرقيا، وبخاصة تلك المتعلقة بعلاقاتها النزاعية والصراعية مع الجماعات الأخرى، بحيث إن طروء أي واقعة جديدة في السياق المعاصر كان كفيلاً باستدعاء أسوأ ما عرفه ذلك التاريخ، وإعادة إنتاجه لتبرير وتغذية وتصاعد النزاعات والصراعات الجديدة الراهنة. وهنا يظهر عامل آخر مهم لعب دوراً رئيساً فيما يحدث اليوم وهو حداثة تجربة الدولة الوطنية الجامعة في معظم دول الشرق الأوسط والعالم العربي وفشل بعضها، والتي كان من المفترض أن تقوم عبر سياساتها المختلفة بدمج كل الجماعات المختلفة ضمن هوية وطنية واحدة بصورة توافقية أكثر منها قسرية، الأمر الذي يجعل الانتماء للوطن في مقدمة الانتماءات وتتلوه بعد ذلك الهويات الفرعية الأخرى التي لا يصح وضعها في تناقض مع ذلك الانتماء الأشمل والأعمق. ولا شك هنا أن هذا الفشل للدولة الوطنية لم يكن نتيجة لعوامل داخلية بمفردها فقد لعب التدخل الخارجي وبخاصة الغربي دوراً رئيساً فيه خلال العقود الخمسة الماضية التي تلت الانسحاب العسكري الاستعماري من دول المنطقة.
وهنا يظهر العامل الأكثر أهمية ومباشرة في نشوء وتصاعد تلك الموجة من النزاع والصراع الطائفي والمذهبي والتي يعد العراق بعد احتلاله أمريكياً وبريطانياً هو المنبع الرئيس الذي نشأت منه، وقد أدت السياسة الخرقاء للإدارة الأمريكية في ترتيب تحالفاتها الداخلية في العراق وفي إدارة صراعاتها الإقليمية وخاصة مع إيران، إلى وصول الانتماءات المذهبية والطائفية في العراق إلى أعمق وأسوأ مستوى وصلت إليه خلال العصر الحديث، وهو ما انقلب بعد ذلك في الداخل العراقي إلى ما يشبه الحرب الأهلية وفي النطاق الإقليمي إلى ما يشبه العدوى التي راحت تنتشر في كل مكان.
وفي هذا الإطار، فلاشك أيضاً أن قيام بعض دول المنطقة الرئيسة، وأبرزها إيران، باستخدام كل الأوراق التي تملكها في المنطقة وفي مقدمتها ورقة الكتلة الشيعية الكبيرة في العراق لكي تواجه بها السياسات الأمريكية الموجهة ضدها، قد فاقم بشدة من الوضع المذهبي والطائفي في المنطقة عموماً وفي العراق خصوصاً، ودفع به إلى حلبة الصراع المسلح الخطر، وخاصة عند وقوع ذلك الاستخدام في أخطاء قاتلة كان آخرها إعدام الرئيس السابق صدام حسين في التوقيت والمشهد اللذين تم بهما.
ويبقى بعد كل ذلك السؤال الأصعب: ما مستقبل تلك النزاعات والصراعات المذهبية وتأثيرها في مستقبل العالم العربي والشرق الأوسط؟ وهنا قد تبدو الإجابة الأكثر ترجيحاً أقرب إلى التشاؤم، حيث إن العوامل السابق ذكرها والمؤججة لتلك النزاعات والصراعات تبدو قابلة للاستمرار خلال الفترة المقبلة، بل وربما تزداد حدتها وبخاصة تلك المتعلقة بالسياسات الأمريكية وبعض دول الإقليم فضلاً عما تولده تلك النزاعات والصراعات نفسها من مزيد من الانكفاء لدى معظم الجماعات المتنازعة والمتصارعة على انتماءاتها وهوياتها الأولية وتغذية ذلك بمزيد من استدعاء أسوأ وقائع التاريخ فيما بينها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي