التخطيط والتقليد للمدن التخصصية
الموجة الحديثة التي نعيشها من التنمية العمرانية لمدننا سواءَ كانت ظاهرة المدن الاقتصادية أو المعرفية أو قرارات تعديل الأنظمة العمرانية هي ليست موجة جديدة، بل إنها موجة كانت تجري في بحار معظم دول العالم حتى وصلتنا. فتجربة المدن الاقتصادية والمعرفية وتغير الأنظمة هي تجارب سبق أن مارسها غيرنا من دول العالم المتقدم ثم قلدتها مدن العالم الثالث في آسيا. ومعظم تلك التجارب لم تنجح بالرغم مما سبقها من التخطيط الدقيق. وقد يرجع السبب في عدم نجاحها إلى المثل القديم " تقليد الأعمى يضر". حيث إن تقليد التجارب العالمية ومحاولة زراعتها في بلد آخر تختلف ظروفه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن مصدر التجربة يكون مثل زراعة الأعضاء البشرية في جسم مريض آخر، فالجسم لا يتقبلها مما يضطر الأطباء إلى وصف أدوية لمنع معارضة الجسم لها كأجسام مضادة. حيث إن هذا العضو الغريب وضع في جسم تختلف بيئته وعلاقته بالأعضاء الأخرى لذلك الجسم عن موطنه الأصلي في الجسد الذي أخرج منه. وعندما نستمع إلى تجربة ماليزيا ومهاتير فإنه ليس بالضرورة أن كل ما يقوله يصلح لنا وأن نقل التجربة الماليزية قد لا يناسبنا، بل إنها قد تزيد الأمر سوءا.
التقليد للتجارب العالمية قد يكون مطلوباَ فقط إذا كنا عاجزين عن إيجاد أفكار جديدة لمدننا أو أن نكون روادا في صناعة تجاربنا وإرغام الآخرين على تقليدنا. ولكن لماذا العجز ونحن لدينا مخزون من الأثر والتراث الإسلامي وليكن لنا عبرة في مدننا الإسلامية وممراتها وبازاراتها التي كانت ولا تزال مثار إعجاب العالم. فلماذا لا نعود إلى تصاميم المدن الإسلامية التي تضع المسجد الجامع نواة للحي وحوله ساحة للتلاحم الاجتماعي والتجارة التي هي حتما أكثر مناسبة لنا وتراثنا وعاداتنا وتقاليدنا.
وأمام الفرص الأخيرة لمشاريع الخير والمدن الاقتصادية والمعرفية فإننا يجب أن نحاول تفعيلها تخطيطياَ لتتناسب مع ظروفنا ومعطيات كل منطقة حسب مميزاتها النسبية ولكن لخلق نوع من التنمية المتزنة بالتناسب مع المناطق الأخرى. وليكن لدينا مدن كل منها لها طابع خاص وشخصية معتبرة تنم عن مستوى حضارة سكانها ومدى تمدنهم وثقافتهم بين مصاف الحضارات الأخرى. وأن تكون هذه المدن خاضعة لتخطيط وطني شامل، ويتم ترتيب كل مدينة داخل البلاد على أساس تدرج هرمي من المدن الكبيرة إلى المدن الصغيرة والقرى. وبحيث يتم توزيع جميع الأنشطة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والصناعية والتعليمية. ويكون ذلك بنسب متفاوتة بين المدن. وبذلك تضمن الدولة تكامل وتجانس النسيج الحضري وإيجاد اتزان في توزيع السكان والأنشطة وتوزيع الدخل. ويبرز من هذا النسيج المدن الكبيرة وهي غالباً ما تكون العواصم السياسية أو التجارية أو المالية أو التاريخية والدينية وليس جميعها في وقت واحد.
وكما أشرت سابقاً فإننا عندما نعيد النظر إلى تكوين مدننا نجد أنها تمتلك نواة للمدن التخصصية، فلدينا العاصمة السياسية والتجارية والدينية ومستقبلاً العاصمة السياحية. ولكن الملاحظ أن الاهتمام بالتركيب الداخلي والنمط العمراني المتميز لكل مدينة حسب طابعها مازال مفقوداً ومازال يعاني من إرهاصات وتركات ومشاكل الطفرة العقارية السابقة. ومدينة الرياض هي أهم المدن التي تعاني من فقدان طابعها، فهي مطلوب منها أن تكون سياسية وإدارية وتجارية ومركزا ماليا واقتصاديا وتاريخيا وقد تكون صناعية وكل ذلك في وقت واحد. وهذا أمر يصعب ويستحيل على المدينة تحمله.
ولم تحظ المدينة بحكمة التآخي والتكاتف والتنسيق بين من يحاولون معالجتها وأصبحت كالإنسان المريض الذي يتلقى العلاج من عدة أطباء كل يعطي ترياقه بدون أي تنسيق أو تخطيط. حيث إن كل مهندس أو مختص أو جهة حكومية أو بلدية تعمل في معزل عن الأخرى أو حتى بمعزل عن بقية إداراتها وفي محاولات بائسة لمعالجة الوضع بدون أي اعتبار لإعطاء المخطط دوره.
إن النظريات التخطيطية في معظمها وتجارب من سبقنا تؤكد أن نمو المدن فوق طاقاتها أو ما تملكه من مقومات يعتبر من أكبر وأبرز المشاكل التي تواجه المدن الكبرى في العالم. فالنمو الفاحش يؤدي إلى تفكك المجتمع وكثرة الفساد الاجتماعي وقلة فرص العيش وتفشي البطالة والجريمة إلى حدود لا تمكن رجال الأمن من السيطرة على مجريات الأمور والأمثلة على ذلك دولياً كثيرة. ومن هذا المنطلق دأب علماء التخطيط والمسؤولين في تلك الدول إلى إيجاد واستحداث حلول ونظريات تخطيطية مناسبة للحد من نمو المدن العشوائي ومن هذه النظريات تأتي نظرية "مناطق النمو العكسي" و"بؤرات النمو خارج المدن". وهي فرصة لإعادة النظر في موضوع النمو وتداركه قبل أن يخرج الأمر من أيدينا وأن نحاول أن نستفيد ولو بقليل من تاريخ وتجارب المدن التي سبقتنا وتورطت في هذا المجال.
إن النمو الحضري والسكاني يحتاج إلى مقومات وتكاليف أبدية تضمن العيش الشريف للأجيال المقبلة، وأن يتواكب مع مقومات المدينة وما يمكن أن تقدمه مستقبلاً من ثروات بشرية ومائية وزراعية واقتصادية لسكانها على المدى البعيد. ومدى هذه المقومات ومدى بقائها للعصور أو الوقوف عند حد نموذجي معين من النمو ومحاولة تحويل النمو المستقبلي إلى المدن المجاورة وتقليل نسبة الهجرة من القرى إلى المدينة وذلك بعدم السماح بفتح معاهد تقنية أو جامعات وتحويرها إلى القرى المجاورة للمدينة وجعلها نواة لمدن جامعية يمكنها النمو ذاتياً أو التشجيع على نقل بعض المؤسسات الكبيرة الخاصة مثل "سابك" أو "بترومين" التي من الأولى أن تسهم في نمو مدن أخرى مثل مدينة الجبيل وينبع أو تحويل بعض الجامعات والمصانع الوطنية إلى القرى المجاورة.
إننا في أمس الحاجة إلى إدراك المفهوم والمعنى الحقيقي للتخطيط كعلم قائم بذاته يضع العمود الفقري الذي يربط وينسق بين السياسات المختلفة بدلا من اتخاذ قرارات وسياسات منعزلة ومتضاربة مع بعضها الآخر. فالتخطيط علم حديث وشامل لجميع العلوم والمخطط هو إنسان درس جميع التخصصات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجغرافية التي تهم صلب التخطيط. فإن أي قرار اقتصادي يجب أن يدرس في ضوء تأثيراته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بدلاً من الارتجالية في القرارات والسماح للفردية في القرارات من مختصين ليس لديهم النظرة الشمولية للتخطيط وإبعاده، وهو ما يطرح التساؤل عن دور بعض المسؤولين في الوظائف التخطيطية ومدى مناسبتهم لفهم واستيعاب مفهوم التخطيط ومدى احترامهم لمهنة التخطيط واستفادتهم من مجهودات الكفاءات التخطيطية الوطنية ومحاولة تشجيعها. وبذلك فإنه من الصعوبة على إنسان ليس لديه إلا تخصص واحد كأن يكون مهندسا أو اقتصاديا أو سياسيا أن يقوم بتنظيم ومحاولة إشراك مختلف القطاعات العامة والخاصة ممثلة في مسؤولين حكوميين وماليين واستثماريين وعقاريين للمساهمة في صنع القرار التخطيطي المصيري لمدننا ومستقبل سكانها للسنوات الـ 20 أو أكثر المقبلة ومعرفة أبعاد حيثيات التخطيط. أو أن يعطينا الإجابات الشافية لجميع مشاكل التخطيط التي نعاني منها.
فلماذا لا نبحث عن الحلقة المفقودة والالتباس الحاصل بين تفهمنا للفرق بين التخطيط الحضري والعمراني (ممثلا في وزارة الشؤون البلدية والقروية) أو التخطيط الوطني (ممثلاً في وزارة التخطيط). وأسئلة أخرى كثيرة كلها تنتظر الولادة المتعثرة لاستيعابنا فكرة أن التخطيط هو علم مهم وشامل وأن نوقف الآخرين عن الإفتاء والادعاء جهلاً بأنهم يعلمون. أو المحاولة وبجراءة لارتداء قميص أكبر منهم لقيادة مشاريع عملاقة أو بتقديم تجربة جديدة بدلاَ من إزاحة الستار عن قدرات المخططين السعوديين وإعطاؤهم فرصة العمر لإثبات أنفسهم "ومن زندك أو مت" بدلاً من تسليم أيدينا ومدننا للمكاتب الأجنبية كما أشرنا في مقالات سابقة ونجني ثمرات عشوائية التخطيط الذي نعيشه اليوم.