صدام حسين والعراق.. وداعا!
.. صدام حسين شـُنق بحبل غليظ، وكان الإعدام متوقعا، ولم يكن توقيت الإعدام موفقا. صدام حسين عاش زعيما أوحد لا يتنفس أمامه أحد من دون إذنه، ويقتل، ويسجن، ويتصرف بمعارضيه كيفما يريد وبإشارة من إصبعه يمكن أن تـُحرق قرية بأكملها، صحيح. ولكن الحكام الذين يحكمون العراق مباشرة أو بالوكالة أو بالأمر من الأبواب العليا في واشنطن ولندن ليسوا أفضل منه، وأنا لن أقارن أخلاقيا أو سياسيا ولكن بنتائج الوقائع على الأرض، فتجد أن صدام بجرمه وعقليته المركبة والمتعاظمة ضررها على الناس في العراق محدود مهما كان فظيعا، ومعروف مهما بعدت أوجه التبرير، فكان يكفي للعراقي أن ينتبه لمعاشه اليومي من دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة ضد صدام أو رموزه حتى تمضي حياته آمنة، والآن لا يستطيع الفرد العراقي أن يشعر بالأمان وإن انحنى يقبل الأرض التي يمشي عليها أي من الذين يدعون سلطة في العراق، فصار الخوف مشاعا، ومنجل الموت يدور في أنحاء العراق يضرب الجميع المشارك في الحرب، أو المشارك في الرأي، ويحصد أرواح مَن كان قدرهم فقط أن يخرجوا من بيوتهم في ذلك اليوم، وكأن من يخرج للشارع يحمل روحه ولا يدري هل يعود بها إلى البيت أم لا يعود أبدا. بل الموت اقتحم حتى مكامن البيوت..
إن العراق بموت صدام رغم كل خروقاته الكبرى قد خسر الأمان، وإن كان الأمان المتلفع بالخوف، وأن العراق مع المتنفذين الجدد مهما كانت نواياهم قد خسر الأمان وأشياء أكثر.. لذا لو يعود الزمن مع معرفة ما جاء بعده.. لما كان اختيار صدام وفترته من قبل العراقيين بعيدا عن التوقع مقارنة بفظائع ما صار بعده. شـُنق صدام وقبله شنقت الحياة في العراق.
ومهما بلغت بنا سذاجة الطيبة في قراءة نوايا من يتنفذون في العراق، في أرضه أو من وراء بحار، إلا أن إعدام صدام في وقت كان فيه المسلمون في أرفع مواسمهم روحية، ويتبادلون تهاني العيد هو سواء كان مقصودا، أم غير مقصود (ولا دليل واحد لدينا أنه بلا قصد وبلا خطة مضمرة) ضرب إسفينا أخاف أن يكون نهائيا في العمود الفقري لوحدة العراق وتوافق العيش بين مذاهبه.. وهنا أوغرت الصدور وستبقى الجروح غائرة ونازفة بالقيح، ولا يمكن استكناه شيئين من وراء المشهد: مدة بقائه الزمني، ومدى عواقبه الكبرى على كيان العراق. كما خسرت الآلة الأمريكية وبغباء غريب ومذهل حملة علاقاتها العامة ليس مع فئات في العراق بل مع كل العرب وأغلبية المسلمين.. كان إعدام صدام في يوم العيد وفي مناسبة الحج بمثابة إلقاء قفاز ملطخ بالدم في وجه الأمة الإسلامية، وإهانة لن تنمحي في مس شيء مهم في صورة مقدساتهم.. لذا فإن صدام حسين الذي كان يجب أن يموت موتا عاديا، من خلال محاكمته، أو توقعا بعد اتهامه بالجرائم التي ارتكبها، وكانت ستنتهي قصة شخص بعد زمن قصير أمام من يكرهه، وأمام من كان يعجب به.. فإعدامه بهذا المشهد المخفق سيتحول صدام إلى أسطورة، إلى بطل وشهيد.. إلى ملحمة. وليت أن الأمر سيبقى فقط حكاية تقص عبر السنين، أو أسطورة تمتلئ بها صفحات كتب التاريخ.. ولكن سيشعل بركانا كان يتقد في باطنه بالحمم.. وعندما تخرج الحمم أنهارا من نار فإنها ستلتهم مَن كان يحب وحدة العراق ومَن كان يريد تقسيم العراق.. الجميع سيجرفهم تيار من سعير الحقيقة!
ما العمل الآن؟ صعب جدا أن يُعمل أي شيء لصالح العراق الآن فقد ضيق توقيت إعدام صدام المساحة المتاحة لأي مناورة لإصلاح حال الجسد النازغ الجراح، والمحطم العظام، والمكسور القلب، والضائع الانتماء. وبالتالي، فإن أي عمل مهما كان نوعه في داخل الساحة العراقية هو كما شرحنا في المشهد المقطوع من ملهاة جهنمية سيجرفه تيار الصهيد الذي تتطاير فقاقيع غليانه الحممي حال ولوجه الساحة العراقية، ولذا نرى أن الفعل الأول أو رد الفعل الأول العاقل هو التفكير خارج الساحة، أو أن عدم التدخل بها حاليا من الممكن اعتباره حلا من الحلول بما أن - بما زعمنا- أن الدخول لن يضيف إلا احتراق من دخل أتونا مشتعلا، وقابلا للاشتعال أكثر. وكذلك من الصعب أن تجد كتلة عراقية واحدة متماسكة تماسكا يجعلها قابلة أن تقف معها أو تتفق معها، فالجو شديد الحلاكة ممتقع بسجف غليظة تمنع أي سبيل للاستكشاف والرؤية، وهنا في أن اللجوء لمساندة أي كتل من الكتل من قبل قوة خارجية هي عين من يسير في الظلام في طريق مليء بالحفر المشتعلة وفوق كل هذا معصوب العينين برباط سميك..
لا حل الآن أنموذجيا متاحا، والحكمة حاليا هي عدم الزج بأي شيءٍ داخل العراق، والتفكير في أن يساعد العراقيون أنفسهم. وكواقعيين، نعرف مدى صعوبة ذلك بعد أن نفذ الخنجر مسموما في عصب العراق باختيار وقت سيئ لإعدام صدام فيقسم العراق إلى فرقاء بعضهم يتشفى، وبعضهم يمزقه الغضب ويؤرقه أنه المقصود بهذا الخنجر بالذات.. بعضهم سيرى صدام مجرما يجب أن يموت وفي أي وقت كان.. موته هو الهدف، وبعضهم سيطوبه شهيدا.. عناصر الطبخة التاريخية للفتنة!
أقرب الحلول الآن هي جمع عراقيين عقلاء ومشهود لهم بالنزاهة والوطنية من كل طوائف العراق وخلق نوع من العمل الذهني والمادي خارج العراق من أجل وحدة العراق تحت رعاية دولة يهمها أن ينجو العراق من محرقته.. حتى لا يحرق نفسه ويحرق معه الآخرين!