أسواق المال وعلاقتها بالأمن الاقتصادي الخليجي

لا أحد يشك في أننا نعيش حالة انتعاش اقتصادي خليجي واضحة المعالم، وهي بكل أمانة منَة من الله, عز وجل، ولولا الذهب الأسود, أطال الله عمره وأبقاه ذخرا لأمم الخليج, لكنا في حال لا يعلمها إلا الله. ومما يؤكد تخبط التخطيط، أو حتى أكون أكثر دقة هناك محاولات جادة للتخطيط ومشكلة واضحة في آليات التنفيذ ما حدث في أسواق المال وضياع الطريق بالنسبة إلى السيولة منذ عام 2001, التي غاصت بها دول الخليج دون قنوات رسمية واضحة لتوظيفها, وفي المقابل عجز واضح في البنى التحتية وزيادة في معدلات البطالة. وحتى لا ننكر الكثير من الحقائق، نقول إن هناك منجزات تحققت على أرض الواقع بسبب الذهب الأسود, وهي وإن كانت أصبحت للجيل الحالي شبه مسلمات فإنها بالنسبة إلى الجيل السابق كانت حقيقة معجزات. ولكن رغم الإيمان بالمنجز وحقيقة ما أنجزه المؤسسون، فإننا لا نملك إلا العمل الجاد على المحافظة على المنجز في مقابلة التحديات.
ورغم قولنا هذا فإن الأمة كلها والخليج بخاصة يواجه تحديات حقيقية بارزة لا يمكن تغطيتها "بغربال" كما يقال. وهي تحديات تحمل في طياتها كل الاحتمالات سواء على الأصعدة السياسية أو الاقتصادية وكذلك الاجتماعية والثقافية. وبطبيعة الحال هناك أولويات يجب التركيز عليها, ولكن في الوقت نفسه يجب ألا يعني ذلك أن الأولويات التي تأتي في مراتب أقل من الأول والثاني يمكن تأجيلها، أو أن الشأن السياسي مقدم على الاقتصادي أو الاجتماعي، وقد تكون هذه إحدى مشكلاتنا الرئيسية. وهي عندما نركز على أولوية ننسى التحديات الأخرى والمشكلات ولا نفعلها إلا عندما تتفاقم وتصبح أولوية ولكن بعد أن أصبحت أكثر تعقيدا وذات تأثيرات سلبية, ما يؤدي إلى أن يكون صانع القرار أمام أقل الضررين، وليس أحسن الخيارات التي تؤدي إلى أحسن الاستراتيجيات. ومع مرور الأيام تصبح حياتنا بعيدة عن التخطيط ولكنها ردات فعل لأفعال وضُعنا فيها أو حُشرنا فيها سواء بسبب عوامل داخلية أو ظروف خارجية.
وكمثال وحالة ظاهرة ونعيش تبعاتها اليوم، أسواق المال التي وضعت نفسها كأولوية أمام صانع القرار السياسي قبل الاقتصادي بسبب التأثيرات السلبية التي خلفتها الارتفاعات الفلكية منذ عام 2003م ثم السقوط الذي كان متوقعا في بدايات عام 2006, وذلك في معظم دول العالم، وكأن تلك الأسواق لم تتأسس إلا في ذلك العام، وليست موجودة منذ أكثر من 20 سنة الأقل بالنسبة إلى السوق السعودية. وها نحن على مقربة من توديع عام 2006م والأسواق المالية لا تزال تعاني وسوف تظل تعاني فترة أطول بسبب إغفال العديد من الجوانب منذ زمن كان يجب الالتفات إليها والعمل على تطويرها. وكما قلت أسواق المال ما هي إلا مثال على كثير من التحديات التي بحكم زمان العولمة وزمان التغير فرضت نفسها. وحتى أكون أكثر وضوحا فيما يخص أسواق المال وعلاقتها بأمن الخليج الاقتصادي, أقول العولمة ومنظمة التجارة العالمية فرضت علينا التحديث الذي كنت أتمني أن يكون نابعا من الداخل وصيرورة التطور المحلي، ولكن وبحكم الضغوط الخارجية اضطررنا في كثير من الأحيان إلى "سلق" العديد من التنظيمات بهدف توفير المتطلبات بشكل أهمل، وأؤكد على كلمة "أهمل" المتطلب الداخلي. حيث كانت نظرة المسؤول إلى الخارج وليس إلى الداخل. ولكن أسواق المال التي هي أكثر حساسية من أي قطاع آخر لا يمكن أن تقبل أن "تسلق" وبشكل عشوائي أو انتقائي أو حتى مرحلي.
وما يؤكد ذلك أن المسؤولين لا يتحركون مهما صرخ المحذرون إلا بعد أن تصبح القضية شعبية, ويصبح متخذ القرار السياسي مضطرا إلى التدخل، بسبب تلكؤ المسؤول الاقتصادي عن اتخاذ القرار والتطوير في الوقت المناسب رغم منح الصلاحية الكاملة لهذا المسؤول. نعلم أن المسؤول لديه أولويات ولكن كثرة مسؤوليات هذا المسؤول هي إحدى مشكلات الخليج، ولا أعلم لماذا معظم مسؤولي الخليج تجدهم يحملون أكثر من حقيبة في يد واحدة وكأن الكفاءات شحيحة إلى هذه الدرجة؟
المهم أن التحدي وكما قلت هو تحد قد ينظر إليه مقارنة بتحديات أكثر وضوحا أو إلحاحا وهي تحيط بالخليج من جميع الجهات, ويبدو والله أعلم, أننا نعيش بداية استقطاب وتكتل يأخذ منحنى فكريا ومذهبيا في نطاق عالمي أوسع يدفع بهذا الاتجاه, وهو ما قد يعيد سيناريو الحرب الباردة وحرب الاستقطاب والتجيش الأيديولوجي, ولكن هذه المرة مع الداخل الإسلامي. والملاحظ أن الكثير من القرارات التي تخص أسواق المال تحتاج إلى دراسات مستفيضة تأخذ في الاعتبار الكثير من التجارب المحلية والدولية. ونعرف حساسية الأسواق, ونعرف أن الأسواق تعتبر عنصر جذب ليس للمستثمرين فقط ولكن لمستغلي الفرص, الذين هم في حالة سفر دائمة بين الدول, وبالذات النامية. والمتابع حتى لما يكتب في الإعلام الاقتصادي الغربي فإن ذلك يعتبر فرصا يجب استثمارها وعلى المدى القصير وليس الطويل، وما تجربة نمور آسيا إلا دليل على أن أوراق المال أداة مهمة بقدر ما هي وسيلة قد تستغل لضرب عصب الاقتصاد سواء بمؤامرة أو من خلال مستغلي الفرص كما قلت.
أنا مع تنظيم أسواق المال وفتحها بشكل أكثر، ولكن لدي هواجس كثيرة منها أنه لا يمكن الانتقال بأسواق مال ناشئة من كونها مغلقة بشكل كامل ومتحفظة إلى درجة الشلل إلى أسواق ليبرالية مفتوحة على مصراعيها للجميع، هذا أولا. ثانيا هل لدينا القدرات والكفاءات الإشرافية والرقابية القادرة على ضبط العمليات والأعمال بما يخص مصلحة الاقتصاد وبما يحفظ أمن الخليج الاقتصادي؟ هل نستطيع إذا جاءت أموال من الخارج, وهي قادمة وتدخل الآن وتخرج بطريقة أو أخرى، أقول هل تستطيع مراقبة ما يفعله على سبيل المثال مديرو صناديق التحوط Hedge Funds التي حتى الدول الغربية فشلت في مراقبتها والحد من الكثير من التلاعب فيها؟ إذا لم تستطع دول الخليج ضبط هوامير سوق المال المحليين وما فعلوه بها أمام بصر وسمع الجميع، ولم تمتلك من أمرها شيئا, هل نتوقع أن تكون هذه الجهات المسؤولة قادرة على ضبط جماح الأموال الطائرة ولجمها؟! وبالذات مع التوجه للتكامل الاقتصادي الخليجي. أمن الخليج الاقتصادي هو أمن مشترك كأمنه السياسي والشفافية غير المنقوصة هي الحل السحري لكشف الكثير من المشكلات والتداخلات التي أدت إلى الحال التي نعيشها, وكذلك شفافية الإصلاح والتطوير.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي