وزن تيار "الانسحاب" من العالم العربي في مصر
منذ أن قام الرئيس المصري السابق أنور السادات بزيارته المفاجئة إلى القدس في 19 تشرين الثاني (نوفمبر) 1977 ثم توقيعه لأول معاهدة سلام عربية مع الدولة العبرية بعد ذلك بعامين والوسط السياسي المصري يعرف تياراً فكرياً وسياسياً يتبنى رؤية خاصة لطبيعة علاقة مصر بإطارها الإقليمي العربي المحيط بها من كل جانب. وهذا التيار الذي يمكن تسميته تيار "الوطنية المصرية الضيقة" ينطلق في رؤيته لتلك العلاقة من أنها علاقة جوار فقط لا تمتد لأي أبعاد ثقافية أو دينية أو اجتماعية أبعد من ذلك، وأن الأساس الذي يجب أن تقوم عليه أي علاقات لمصر مع الدول العربية يجب أن يكون هو ما يسمونه "المصالح الوطنية المصرية" التي لا ترتبط بالضرورة حسب تلك الرؤية بمصالح قومية عربية مشتركة أوسع من ذلك. ولم يكن ذلك التيار الذي يمكن أن نطلق عليه بسهولة صفة "الانعزالي" جديداً على الساحة السياسية المصرية، فقد برز ممثلون له منذ سنوات الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، إلا أنه اكتسب زخمه الأكبر مع السياسة الخارجية التي اتبعها نظام الرئيس السادات وبخاصة توجهه لإقامة علاقات سياسية ودبلوماسية رسمية مع الدولة العبرية. وقد جرت العادة أنه أثناء الأزمات الكبيرة ذات الطابع الإقليمي الممتد عبر عديد من دول ومجتمعات المنطقة يزداد نشاط أصحاب ذلك التيار في مصر على الرغم من الضآلة التي يمثلها في مجمل الحياة السياسية المصرية، وهو ما أتاحته له اليوم تلك الأزمات المركبة التي تجتاح كلا من العراق وفلسطين ولبنان.
وبالرغم من وضوح ذلك التيار في منطلقاته ودعوته لفصل المصالح المصرية عن المصالح العربية والتوجه إلى أي نطاق دولي أو إقليمي آخر يحقق تلك المصالح الأولى حسب رؤيته، إلا أن التردد والتناقض يجتاحان رؤى أصحاب ذلك التيار حين يواجهون الأزمات الإقليمية الكبرى, مثل تلك التي تجتاح منطقتنا حالياً. فهؤلاء لا يملون في ظل تلك الأزمات من الحديث عن ضرورة وجود دور مصري في إدارتها بما يحقق ما يتخيلونه المصالح المصرية الخالصة أو في أقل تقدير يحميها من الخسارة النسبية أو الضياع التام. وحين يبدأ هؤلاء في تحديد المجال الجغرافي والاستراتيجي لهذا الدور المصري بالصياغة التي وضعوها له، لا يجدون إقليماً تلعب فيه مصر هذا الدور سوى الإقليم العربي المحيط بها والذي يعولون عليه كثيراً لتنمية الموارد المصرية المختلفة بما يؤكد دورها القيادي فيه والذي يرشحها بدوره للحصول على أدوار دولية أكبر تدر عليها موارد إضافية سياسية واقتصادية ومعنوية، حسب الرؤية التي ينطلقون منها, أي أن هذه الرؤية "الانعزالية" لقطاع من النخبة المصرية لا تستطيع أن تكمل دائرة ما ترى أنه المصالح الوطنية المصرية الخالصة سوى بالعودة من جديد إلى الارتباط المصري بالإقليم المحيط بها بصورة أو بأخرى، أي العالم العربي الذي يرفضون نظرياً أن ترتبط به تلك المصالح أو تركز عليه سياستها الخارجية.
والحقيقة أن ارتباط مصر العربي، بالرغم من وجود هذا التيار في الساحة السياسية المصرية، قد أضحى واحداً من الثوابت الرئيسية التي استقرت بصورة تبدو شبه نهائية في الفكر والممارسة السياسيين في مصر بعد أن كان محض فكرة هائمة بين بعض التيارات السياسية في العهد السابق على ثورة تموز (يوليو) 1952 لا تجد تجسيداً واقعياً لها سواء على صعيد برامجها السياسية أو على صعيد سياسات والتزامات الدولة المصرية في ذلك الوقت. فبالرغم من مراحل المد والجزر في علاقات مصر العربية الرسمية خلال العقود الثلاثة الماضية، إلا أنها قد قامت جميعاً على ذلك الإقرار بوجود دور ما لمصر في الإطار العربي سواء كان إيجابياً أو سلبياً. فالدولة لم تقدم، حتى في أشد مراحل خلافها مع الإطار العربي ما بين 1979 و1987، على إجراء أي تعديل يمس انتماء مصر العربي في وثائقها الرئيسية وفي مقدمتها دستور البلاد ومختلف المعاهدات والاتفاقيات التي تربطها بالعالم العربي، كما ظل التوجه عربياً هو المسيطر على سياستها الخارجية على الرغم من عدم وصول معدلاته أو مجالاته إلى الحد الأقصى المحقق للمصالح الحيوية المصرية والعربية المشتركة. ويصعب العثور اليوم في مصر على تيار سياسي ذي وزن حقيقي في المجتمع والنخبة ينكر حقيقة الانتماء العربي لمصر، أو في أدنى الأحوال وجود علاقات "مصالح" استراتيجية مباشرة وحيوية لها مع دول الجوار العربية.
وغير بعيد عن حقيقة عروبة مصر التي استقرت في جنبات المجتمع السياسي المصري، فقد رسخ فيه أيضاً موقف مبدئي يتعلق بالقضية الفلسطينية قام على قاعدتين رئيسيتين: الأولى، أنها قضية تمس شعباً عربياً شقيقاً ينتمي ومصر إلى إطار عربي واحد، مما يلزم مصر بمساندته والوقوف المستمر معه خاصة أن موقفه ومطالبه يستندان إلى الحق التاريخي والشرعية الدولية بمختلف صورها. أما القاعدة الثانية فهي اعتبار ما يحدث في داخل فلسطين على الحدود الشرقية لمصر أمرا يمس مباشرة الأمن القومي المصري لا يمكن تجاهله, خاصة أنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لم تتعرض مصر لتهديدات عسكرية جدية سوى من تلك الحدود خاضت بسببها أربع حروب وتعرضت أجزاء من أراضيها للاحتلال. وقد ظلت هاتان القاعدتان معاً أو إحداهما على الأقل تدفع مصر الرسمية إلى إعطاء القضية الفلسطينية أولوية دائمة في سياستها الخارجية والإقليمية خلال الأعوام الـ 50 السابقة، في الوقت الذي حافظت فيه مصر الشعبية على موقف مساند مستمر للشعب الفلسطيني انطلاقاً من القاعدتين معاً.