بعد صدور تقرير العراق: ماذا ستفعل الإدارة الأمريكية؟
بعد مئات الساعات من العمل المتواصل وقراءة آلاف الصفحات والاستماع إلى نحو 170 شخصية سياسية وعسكرية بدءا من الرئيس بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، مرورا بعدد من القادة العراقيين وعدد من السفراء ومسؤولين بارزين آخرين من الدول المجاورة للعراق ومن داخل الولايات المتحدة، أعلنت لجنة دراسة الوضع في العراق المعروفة باسم "لجنة بيكر – هاميلتون" تقريرها النهائي حول حقيقة ذلك الوضع وما يجب أمريكياً القيام به تجاهه. وكما يقولون في الأمثال العربية "الخطاب يبدو واضحاً من عنوانه" فقد بدأ التقرير أول جمله في الملخص الذي أجمل ملامحه الرئيسية بالقول: "إن الوضع في العراق خطير وآخذ في التدهور، ولا يوجد طريق يمكن أن يضمن النجاح ولكن يمكن للظروف هناك أن تتحسن".
إذاً يبدو واضحاً من الجملة الأولى في التقرير ثم بعد ذلك من مختلف أقسامه وفقراته أن الحملة الأمريكية – البريطانية على العراق قد وصلت إلى طريق مسدود بسبب السياسات والاستراتيجيات السياسية والعسكرية والأمنية التي اتبعتها تجاهه خلال السنوات التي مضت منذ احتلاله. وأكد التقرير هذا المعنى العام بصياغة واضحة ومحددة بوصفه سياسة إدارة بوش في العراق بأنها "غير فاعلة"، الأمر الذي دفع الرئيس الأمريكي في أول تعليق علني له على تقييم التقرير لسياسته إلى وصفه أنه "قاس". وتعددت في التقرير مشاهد ومظاهر ما أوصلت العراق إليه تلك السياسة، حيث "العنف في تزايد من حيث المدى وبات مميتاً"، وحيث يهدد استمرار تدهور الأوضاع هناك إلى زيادة "مخاطر الانزلاق نحو فوضى قد تؤدي للإطاحة بالحكومة العراقية وخلق كارثة إنسانية". ولم تقتصر النتائج الوخيمة لتلك السياسة التي اتبعتها الإدارة الأمريكية تجاه العراق على مجتمعه وأبنائه فقط حسبما أشار التقرير، بل امتدت للولايات المتحدة التي خسرت هناك ما يقل قليلاًَ عن ثلاثة آلاف قتيل من جنودها وإنفاقاً مالياً يمكن أن يتجاوز مبلغ التريليون دولار.
وعلى أهمية وتعدد أجزاء التقرير التي ترصد وتعلن بصورة رسمية للمرة الأولى في الولايات المتحدة حقيقة الوضع الكارثي الذي بات العراق يعيشه منذ وبسبب الغزو العسكري الأمريكي – البريطاني له، فإن الأكثر أهمية وربما صعوبة في التطبيق هو الأجزاء المتعلقة بالتوصيات التي وضعتها اللجنة من أجل الخروج من "المستنقع العراقي"، والوصف الأخير لنا وليس للتقرير. فالنظرة الإجمالية لتلك التوصيات توضح أنها تتطلب صياغة سياسة خارجية أمريكية جديدة ومختلفة عن تلك التي اتبعتها الإدارة الحالية سواء تجاه العراق بصفة خاصة أو تجاه منطقتي الخليج والشرق الأوسط بصفة عامة. فالتقرير لا يطرح فقط تغييراً واضحاً في الاستراتيجية العسكرية الأمريكية في العراق, وفي عدد القوات الأمريكية العاملة فيه, بل يقترح اتباع سياسات مختلفة نوعياً تجاه الأزمات الكبرى في المنطقتين المشار إليهما وفي مقدمتها الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكذلك النوعية من السياسات الجديدة نفسها تجاه دول فيهما تدخل معها الإدارة الحالية في صراع عنيف وفي مقدمتها إيران وسورية. والروح العامة التي حكمت صياغة تلك السياسات الأمريكية الجديدة المقترحة في التقرير عبر عنها وزير الخارجية الجمهوري الأسبق والرئيس المشارك للجنة جيمس بيكر في المؤتمر الصحافي الذي قدم فيه التقرير بقوله إن "السياسة الأمريكية لا ينبغي أن ترتكز على الاستراتيجية العسكرية, وإنما على الحصول على التزام وتعاون جميع جيران العراق." ويبدو واضحاً من تلك الصياغة كم هي مختلفة في العمق والدرجة تلك السياسة الخارجية الجديدة المقترحة عن تلك القائمة اليوم في العراق ومجمل مناطق الشرق الأوسط والخليج وأفغانستان والتي تعتمد بصورة رئيسية على الاستخدام المباشر والمكثف للقوة العسكرية.
والسؤال المركزي الذي يطرح نفسه بعد مطالعة توصيات التقرير وطبيعة تلك السياسة الخارجية الجديدة المقترحة يتعلق بالإمكانية الواقعية لتبني مثل تلك السياسة من جانب الإدارة الحالية في البيت الأبيض بكل ما هو معروف عن توجهاتها الفكرية اليمينية المحافظة وممارساتها العملية خلال الفترة التي مضت منذ وصولها للحكم والمصالح الكبرى التي تمثلها لها كل من "صناعة الحرب" و"صناعة النفط". فهل من الوارد أن تتخلى تلك الإدارة برئيسها وصقورها عن كل تلك الأفكار والممارسات والمصالح والانقلاب على السياسات التي أوصلت العراق وأوصلت بلادهم والمنطقة كلها إلى الكارثة أو حافتها المباشرة على أقل تقدير؟ والحقيقة أن إجابة هذا السؤال المركزي ستظل قابعة في طبيعة الضغوط التي سيمارسها الحزب الديمقراطي الأمريكي عبر الأغلبية التي يملكها اليوم في مجلسي الكونجرس ومدى تفاعل الرأي العام الأمريكي معها ودعمها بضغوط شعبية وإعلامية واسعة ومتواصلة على الإدارة في مختلف فروعها. والأرجح أنه حتى مع توافر تلك الضغوط الحزبية والبرلمانية والشعبية، فإن الإدارة الأمريكية الحالية بتركيبها الواضح والمعروف لن تكون قادرة على القيام بذلك التغيير الجذري الدراماتيكي في سياستها الخارجية سواء تجاه العراق أو تجاه منطقتي الشرق الأوسط والخليج التي ترى فيهم جميعاً المجال الحيوي لتطبيق أفكارها الإيديولوجية ومصالحها المادية والسياسية. وما يمكن توقعه في هذا السياق هو أن تسفر تلك الضغوط المشار إليها عن حالة من الجدل الطويل بين الكونجرس والإدارة والرأي العام يتخللها قيام الإدارة بتغيير بعض من سياساتها وتطبيق أجزاء من التوصيات التي اقترحها التقرير دون تطبيقها كاملة حتى ينقضي العامان المتبقيان من حكمها وتترك "الكارثة" برمتها لمن سيأتون بعدها لكي يحاولوا الخروج منها.