هيئة البيعة ومعايشة التحديات
كثر الحديث عن الفوضى المنظمة والإصلاح السياسي, وانطلق وابل من المقترحات تعكس جهلا غريبا بطبيعة العالم العربي والإسلامي, وتجد في المطالبة بصيغة تطويرية وفق المنهج والأسلوب الغربي. وكانت المشكلة أن مبتدعي هذه المقترحات افتقدوا الحد الأدنى من المعرفة حول طبيعة التطورات السياسية, التي نمت وترعرعت في إطار مختلف.
عاش العالم الغربي تجارب الكشوف الجغرافية وحركة الاستعمار التي تبعتها وغطت دول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية, وصحبت ذلك رحلة البحث عن المصالح ممثلة في الأراضي والمعادن والمزارع, كما عاش الغرب تجربة إبادة الشعوب مثل الهنود الحمر وسكان أستراليا الأصليين, وتجربة التفرقة العنصرية في الهند وجنوب إفريقيا وروديسيا, وتجربة النظريات الاقتصادية الاشتراكية والغابية والشيوعية. كل ذلك إلى جانب استرقاق العمالة من إفريقيا, مع العمال المحليين الذين تمردوا على الرأسماليين, وفي أعقاب توترات استغرقت سنوات طويلة وثورات عارمة توصل الغرب إلى صيغة التفاهم الخاصة بالحكم. ومع اختلافات البداية في دول مثل فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا, إلا أن النموذج الديمقراطي ساد وأقنع أصحابه أنه لا بديل عنه ليطبق على الجميع. وهنا نجد أكبر حجر عثرة على طريق العلاقات المتوائمة بين الشرق والغرب, حيث تعتقد حكومات الغرب أن لديها الصيغة الأبدية والترياق الشافي لجميع الأمراض. أما التطور العربي فقد حدث حسب منهاج مختلف, ونشأ وقام على أرض قاسية التضاريس كريمة العطاء, أرض أحبت الإنسان فأحبها ونشأت على ترابها وشائج وروابط القبيلة والعشيرة والمجتمع الأولي الذي بني من أجل المستقبل دون بغي.
الإفراز السياسي مختلف ومعايير التقييم متباينة والمفاهيم الأساسية أكثر اختلافا, ويجيء قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإنشاء هيئة البيعة علامة متألقة ومنارة مضيئة على طريق محدد المعالم. يحمل القرار في ثناياه الجديد والصالح ولكنه ينساب إلى واقعه في تلقائية تبنى على ما صنعه المؤسس الفذ عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود.
والمتأمل في ثنايا المرسوم الملكي يلمح المعالم المضيئة المحددة, فهو يتعامل مع المستقبل بروح الإعداد والاستعداد وبذل الجهد, حتى لا نضيع في غياهب التفاصيل, إذا ألمت الملمات ووقعت الحوادث. فالعاقل من يعد للأمر عدته, ويضع خططه لاستيعاب المتغيرات كافة.
وعندما توضع هذه الخطط على أساس مستنير من الضرورات والأساسيات والسلوكيات الواجب اتباعها فإن الدولة تخطو إلى بر الأمان.
إن القرآن الكريم في محكم آياته قد شرح لنا الهدف الأسمى الذي ينشده الإنسان: بسم الله الرحمن الرحيم "لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" صدق الله العظيم.
فالقائد المحنك هو الذي يؤمِّن لشعبه طعامهم, ويكفل لهم أمنهم, ومن أساسيات تأمين الأمن, الإعداد والاستعداد للطوارئ والتهيؤ للأقدار. فإذا قيض لهذه الدولة أن تواجه مواقف صعبة بوفاة قائد, فإن الخطط تكون جاهزة لاستيعاب الصدمة وتحويلها إلى إجراءات متتالية تكفل الاستمرار الناعم الهادئ. وهل هناك أمن أفضل وأسهل من ذلك؟
إن الحاكم بشر مثلنا, يحس ويمرض ويموت ويتفاعل وينفعل ولكنه يختلف عنا في أن قراره يصيب بالخير أو الضرر الملايين ومن ثم وجب أن يكون في صحة جيدة, وينبغي أن تتلازم صحة الجسد مع العقل مع النفس, وأن يكون راجح الإرادة ثابت الجنان واسع التدبير متفتحا لما يجري حوله يقظا للتحديات شامخا أمام التقلبات.
إن الحكام شخصيات اصطفاها الله لتضطلع بالمسؤوليات الجسام والتصدي للمواقف الصعبة. وعندما حدد أفلاطون في مدينته الفاضلة ومن بعده أرسطو مواصفات الساسة والحكام, وضعا شروطا صعبة, فهم الذين يؤمنون القرار الذي يتعامل مع الاقتصاد والسياسة والثقافة والمياه والعلاقات الداخلية والخارجية والاجتماعية والفكر, وهم مطالبون بألا يقتصر دورهم على التفكير في جيلهم فقط بل تتمدد مسؤولياتهم إلى آفاق رحبة في المستقبل, يخططون لاحتياجاته من الأرض والماء والمأوى والملبس والتعليم, فعليهم تدبير كل ذلك للأحفاد, وعليهم حماية دولتهم لتسليمها إليهم كاملة غير منقوصة, سليمة غير مشوهة, وعليهم حماية مياههم الإقليمية, ومواردهم الطبيعية, لذا فإن دورهم هو التنبه للأخطار المحدقة الطبيعي منها والإنساني. فهل يصلح لكل هذه المسؤوليات إلا نخبة مختارة بآلية عاقلة سليمة وبعيدة النظر؟ وهل يمكن يتصدى لهذه المسؤوليات من لا يتمتع بالعقل الراجح والإخلاص الوافر؟
إن هيئة البيعة انطلاقة حضارية وخطوة عملاقة تفجر ينابيع العطاء وتنفذ الناموس البشري الأعظم وهو أن الأصلح هو الأنسب, هو المعطاء والأقدر على التصدي والسهر والبذل والعطاء.
ويرى فيها العقلاء مظلة وارفة تحمي تحتها عشرات القيم, مثل الشفافية, الواقعية, الإعداد السليم, الحب والإخاء, وحسن توزيع الأدوار بما يناسب صاحبه, حتى لا تظلمه مسؤوليات هائلة ثقيلة أو تنهب وقته انشغالات ضئيلة.
والعبقرية في القرار أنه يبدو سلسلا متصلا مع إرث الملك المؤسس, وإن كان يحمل في الوقت نفسه مواكبة ذكية ونشطة للتعامل مع عالم متغير حافل بالتحديات ومملوء بالمتغيرات.