تطوير مسار المصارف الإسلامية

<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>

في زيارة قام بها لجامعتنا ذات يوم، صارحنا أحد كبار أساتذة القانون في جامعة هارفارد الشهيرة، من المهتمين بدراسات الفقه الإسلامي، أن فكرة المصارف الإسلامية وطبيعة عقود التمويل فيها، هي فكرة متقدمة ومتطورة "استخدم الرجل كلمة Sophisticated"، وأضاف أنه لولا الصفة الدينية لهذه الفكرة لوجدت رواجا سريعا، لأن الناس عادة يتحفظون تجاه ديانات غيرهم، لكنه يعتقد أنها فكرة تقدم شيئا مفيدا وجديدا وستنتشر في يوم مع عمق التجربة ورسوخ قدمها.
بلغ عمر تجربة المصارف الإسلامية الآن نحو أربعة عقود، تمت خلالها إنجازات مهمة وكبيرة في فترة قصيرة نسبيا، مقارنة بعمر تجربة المصارف التقليدية التي امتدت لنحو أربعة قرون. وقد حان الوقت لتطوير مسار التجربة.
وفي مقالين رائعين نشرا في هذه الجريدة في الأسبوعين الماضيين (السبت غرة رمضان والسبت الثامن منه) تناول الدكتور سامي السويلم موضوعا مهما يتعلق بطبيعة خدمات أو منتجات المصارف الإسلامية، وهل هي منتجات تحاكي منتجات البنوك التقليدية، أم تُراها منتجات مبتكرة فيها من الإبداع والهندسة المالية ما يحقق الفلسفة الأساسية التي قامت عليها البنوك الإسلامية بأن تكون مصارف مشاركة في التنمية؟
جاءت مقالتا الدكتور سامي في وقت مناسب نحتاج فيه لتقييم مسار عمل المصارف الإسلامية بعد نحو أربعة عقود من التجربة والنمو الناجحتين. وفيهما دعوة مخلصة لوقفة تأمل ضرورية لتطوير هذه المنتجات، بحيث تكون منبثقة من روح مقاصد الشريعة في المعاملات الاقتصادية، فالعبرة في العقود بالجوهر لا بالمظهر، وبالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ والمباني. وقد أشار، حفظه الله، إلى أن المصارف الإسلامية سلكت في مراحل تكوينها الأولى منهج محاكاة المنتجات المصرفية التقليدية، بعد إعادة صياغتها في شكل عقود مقبولة من الناحية الشرعية. وقد كان هذا المنهج مقبولا أثناء فترة التأسيس، نظرا لسهولته وسرعته في إيجاد بدائل للخدمات المصرفية التقليدية، ولتثبيت أقدام المصارف الإسلامية الوليدة.
أما الآن, فقد حان الوقت لابتكار منتجات مصرفية تكون متوافقة مع مقاصد الشارع في أحكام المعاملات، ومحققة في الوقت نفسه لحاجات الناس في التمويل ضمن إطار الضوابط الشرعية. ولا بأس من التدرج، لكن لا يصح الوقوف عند التقليد، فالأفكار والمخترعات والبرامج العلمية، بما فيها الهندسة المالية، إنما يُبنى بعضها على بعض، فاختراع الحاسوب وشبكة المعلومات الدولية "الإنترنت" كان لاحقا على اختراع الهاتف، وبرامج الفضاء كانت مبنية على الإنجازات الهندسية والطبية والفلكية السابقة عليها، فالبناء العلمي المتدرج بإعمال العقل لإيجاد الحلول وتطويرها هو القانون الذي يحكم جهود البشر خلال تاريخهم على مر العصور.
إن من عيوب منهج التقليد حتى وإن كان مصمما في إطار شرعي، أنه يكبل صناعة الخدمات المصرفية الإسلامية، ويقودها إلى المآلات والمشاكل نفسها التي انتهى إليها التمويل الربوي التقليدي، فيجعل من صناعة مصارفنا صناعة قائمة على تجارة الديون، وهو بالفعل ما انحصر جُل نشاط المصارف الإسلامية فيه حتى الآن، فغدت أصولها تتكون في أغلبها من ديون متولدة من عملياتها في المرابحة، والاستصناع، والإيجار المنتهي بالتمليك، وأخيرا التوّرق.
إن استغراق المصارف الإسلامية في صيغ التمويل المعتمدة على البيوع الآجلة، أدى بها إلى أن تتعرض إلى جملة من المشاكل التي تنشأ عن تجارة الديون: كمشكلة المماطلة في تسديد الدين، ومشكلة الارتباط بأسعار الفائدة في الأسواق العالمية، مشكلة تمويل الحكومة، مشكلة الاستثمار في العملات الدولية، ونحوها. ومع أن الجهود المخلصة الدءوبة قد بذلت وتبذل لاقتراح حلول لهذه المشاكل، إلا أن استمرار المصارف الإسلامية حتى الآن في تجارة الديون كما تفعل المصارف التقليدية، وإن كان بصيغ مقبولة شرعا، هو ما يجب أن ينأى عنه نظامنا المصرفي، ليتوجه أكثر نحو صيغ التمويل القائمة على المشاركات، لكن على المصارف الإسلامية أن تبقى في إطار وظيفة العمل المصرفي الأساسية: وظيفة الوساطة المالية، فلا تشغل نفسها بالتجارة. وهذا عالمنا الكبير وحجة عصرنا في التمويل الإسلامي الدكتور محمد القرى يرى أنه من غير المفيد، بل وربما من غير الممكن للمصارف الإسلامية أن تخرج عن وظيفة الوساطة المالية، لتنهض بنشاط مشابه لأعمال التجار من حيث تقليب السلع وحفظها وتصريفها، فلهذا العمل مخاطره التي لا يقبلها المودعون.
في مقالتي في الأسبوع الماضي ذكرت أن من أهم أسباب عزوف المصارف الإسلامية عن صيغ المشاركات المصرفية، هو ارتفاع مستوى المخاطر الأخلاقية فيها خاصة في عقد المضاربة، لكن هذه المخاطر ليست قدرا محتوما، فقد تم بحمد الله تطوير عدد من الإجراءات التي يمكن من خلالها تخفيض نسبة المخاطر الأخلاقية في مثل هذه العقود. إلا أن نجاح هذه الإجراءات لا يتوقف على المصارف الإسلامية وحدها، بل يستدعي تضافر جهود جميع الأطراف التي تؤثر في كفاءة وفاعلية صناعة الخدمات المصرفية الإسلامية، كجهود السلطات المصرفية، والسلطات التشريعية والقضائية.
كانت الصيرفة الإسلامية أملا راود أحلامنا، ثم أصبح حقيقة ماثلة أمامنا. واستمرار نجاح التجربة يستدعي أن ننتقل من مرحلة التقليد إلى مرحلة الابتكار والتجديد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي