لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا

لا تمارضوا فتمرضوا فتموتوا

<a href="mailto:[email protected]">kjalabi@hotmail.com</a>

جاءني طبيب صحيح البدن متوسط العمر قد استولى عليه الشعور بأنه مريض؟ وأن الأجل قد اقترب؟ ليس هذا فقط بل فتح لي أوراقا مصورة عن مرض (الكارسينوئيد) وهو ورم خبيث يصيب الجهاز الهضمي في الغالب، وبدأ في إحصاء أعراضه، وقال لي إنه مصاب يقينا بهذا المرض؟ وأصعب المرضى على الإطلاق، وأكثرهم إزعاجا هم الأطباء، لمعرفتهم بالحقل الطبي، فيستولي عليهم الوهم، ويبدأون في تطبيق أعراض المرض على أنفسهم.
هكذا قال لي الطبيب المريض بدون مرض، إن مرض الكارسينوئيد يتظاهر بهبات احمرار في الوجه، وإسهالات مائية، واضطراب في الجهاز الهضمي، وكلها معه، قلت له هل أصبح وجهك مثل الطماطم وبشكل متكرر؟ قال لا؟ قلت له هل تخرج مثل صنبور الحنفية الذي يقذف بالماء؟ قال: لا! قلت له هل بلغ حد الاضطراب الهضمي حجم الأعراض المذكورة قال لا ؟؟ قلت له أنت رجل يبحث عن مرض يدخل فيه ويلبسه مثل القميص، ويمكن لك أن تفعل ذلك، وتمرض فهذا شأنك، ولكنك لست مريضا، بل رجل التقط شيئا من الخارج باستعداد داخلي، ومن أراد اعتبار نفسه مريضا، نكب بالمرض صدقا وعدلا.
والثنائية في جسم الإنسان عجيبة، بمعنى أن الروح تخلع ظلالها على البدن فيمرض،وبالعكس، وأنا شخصيا حينما أواجه حالة صعبة وخطيرة تنضرب أمعائي وتتحرك، وأعرف من بعض قريباتي هذا التركيب، فبعضهن إن تعرضن لتوتر أصيبت إحداهن بالقيء.
وينقل هدفيلد عالم النفس البريطاني خبرته من جنود الحرب العالمية الثانية، أنه رأى جنودا مشلولين وعميا وصما وبكما، ليس لمرض عضوي، بل لشدة نفسية، وتعليله في ذلك أن الجندي يصبح موزعا بين شعورين: الأول الواجب والحرب والضرب والتعرض للموت، ومقابله الخوف من الموت، فتعمل الروح بطريقتها الخاصة للنجاة، فيصاب فعلا بالعمى بدون إصابة عضوية، وهكذا ينجو من الموت بطريقة مقبولة مشرفة.
وينقل عن ابن سينا قصة من هذا القبيل في معالجته شاب ضربه داء الحب، فعالجه نفسيا فشفي.
ومن عائلتي تحضرني قصة عجيبة حينما اتصلوا بي، وأخبروني أن فلانة مصابة بشلل، وكانت شابة لا تشكو من شيء، وانتظرتهم في المطار بعد حجز موعد عند طبيب عصبية بارع، وفعلا وصلت وهي محمولة على كرسي نقال؛ فتألمت على حالها وأشفقت، وكنت يومها شابا صغيرا، وفعلا دخلنا العيادة فحدق فيها الطبيب ببرود، وقد أدرك العلة، ثم مددها على طاولة الفحص ليعرف فعلا حياة الأعصاب من نشافها وموتها، وعندما نفض القدم بالكهرباء ارتجت فعرف أنها حالة نفسية، فأمرها بالمشي فمشت بين تهليل المراجعين، وتسبيح الأهل عن كرم الله والمعجزة التي حدثت على يد الطبيب، وكدنا أن نركع للطبيب من فرط الشكر، وكان عندنا من الاستعداد أن ندفع له كل شيء على ما فعل، وهو لم يفعل شيئا سوى أن أمرها ان ترجع لحياتها الطبيعية، والفتاة كانت في وضع نفسي متعكر، فوجدت أفضل طريقة للفت النظر هي التظاهر بالشلل، وكان لها ذلك.
وروى لي صديقي أبو فراس هذا المثل ، وقد يكون له سند من حديث، أن التمارض يورث العلة فالموت.
قلت للطبيب المريض بدون مرض: مشكلتك ليست المرض العضوي، بل التربة النفسية والاستعداد لهذا، وما زلت بالرجل أرفع معنوياته حتى انشرح صدره، وزالت غمته، وانفكت عقدته، وبدأت ملامح الهم تغادر محياه، وتترك محلها للحبور. ولكن النكس وارد.
ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون؟؟

الأكثر قراءة