إلى أين المسير؟

<a href="mailto:[email protected]">mdukair@yahoo.com</a>

بعد أكثر من ثلاثين عاما من الأخذ بسلسلة من خطط التنمية الاقتصادية لم تفلح جهودنا حتى الآن في تحقيق أحد أهم أهدافها الوطنية، المتمثلة في توسيع القاعدة الإنتاجية لاقتصادنا عن طريق تقليل نسبة مساهمة القطاعات الاستخراجية في تشكيل دخلنا الوطني، وزيادة مساهمة قطاعات الإنتاج التي تحول الموارد الطبيعية إلى سلع جديدة ذات قيم مضافة، تعمل على تنويع مصادر الدخل وزيادة قيمته، وفي الوقت نفسه تقلل من الاعتماد على مصدره النفطي الاستخراجي الوحيد. إن ثلاثين عاما هي فترة كافية لتقييم مسيرة التنمية في بلادنا ومراجعتها لاكتشاف نوع وطبيعة الخلل الذي تاه باقتصادنا عن طريق التنمية المأمول. إنها فترة كافية في مسيرة الشعوب والأمم لتصنع من خلالها نهضة اقتصادية حقيقية تنقلها من التخلف إلى طريق الانطلاق الاقتصادي. إن تجارب دول مثل ماليزيا وسنغافورة ثم دبي هي مثال حي على ما يمكن أن يتحقق من إنجاز خلال فترة ثلاثة عقود من حياة الشعوب!
في السنوات القليلة الماضية سجلت إيرادات النفط نموا غير مسبوق، وكانت كل المؤشرات ترجح حدوث فترة رواج حقيقي قي اقتصادنا. لكنى بتُ قلقا من تأخر رؤية أثر حقيقي واضح لزيادة هذه الإيرادات على حياتنا الاقتصادية. إن التحديات الاقتصادية الكبيرة التي تواجهنا بسبب النمو السكاني المستمر، تحتم علينا العمل بطريقة أسرع وبسياسات اقتصادية أكثر كفاءة ومرونة. فاقتصادنا يواجه اختناقات قد تتحول إلى صعوبات لا تحمد عقباها، إذا ظلت السياسات الاقتصادية رهينة للرؤية الاقتصادية المتواضعة والإدارة المركزية الشديدة والبيروقراطية التقليدية المحبطة.
أمامنا تحديات جمة في مجال اقتصادية عديدة، وهي آخذة في التعاظم والتراكم يوما بعد آخر مع تزايد عدد السكان. فهناك مثلا تحديات في الإسكان والتعليم النوعي والخدمات الصحية والمرافق العامة. وعلى الرغم من أن حجم الموازنة الحكومية الأخيرة هو الأكبر من الناحية المطلقة في تاريخ الموازنات الحكومية، إلا أن المدقق في سياسة الإنفاق يلحظ تحفظا كبيرا فيها مقارنة بفترة الطفرة الأولى! ففي الوقت الراهن لم يزد حجم الإنفاق من إيرادات صادراتنا الإضافية عن 25 في المائة، مقابل نحو 60 في المائة، مما تم إنفاقه منها في فترة الطفرة الأولى التي انطلقت عام 1975. لكن ما هو أهم من ذلك في نظري هو أنني أخشى أن كفاءة إدارة الإنفاق العام لم تزل تراوح مكانها، إن لم تتراجع. فالتنفيذ يبدو بطيئا لأن أسلوب الإدارة في الأجهزة الحكومية وطريقة اتخاذ القرارات فيها، لا تزال تتصف بالمركزية الشديدة، وهي لا تتناسب مطلقا مع زيادة حدة مشكلاتنا الاقتصادية.
إن النمو السكاني المتعاظم في حواضرنا الكبرى ولد نموا كبيرا في الطلب على مختلف الخدمات العامة كمرافق المياه وخدمات الصرف الصحي المتهالكة أصلا (مدينة جدة على سبيل المثال). كما أن زيادة عدد خريجي التعليم العام سنة بعد أخرى لا يقابلها نمو كمي ونوعي معقول في عرض خدمات التعليم العالي. فضلا عن أن خريجي التعليم العالي لا يجدون فرصا كافية للعمل، ما أدى إلى زيادة حدة البطالة كواحدة من أخطر التحديات الاقتصادية التي واجهت مجتمعنا في تاريخه الحديث. فمعدل البطالة لم ينخفض سوى بنحو 1.5 في المائة حتى الآن مقارنة بمعدلاتها التي سجلت عام 2000م وفقا لتقرير البنك الدولي!
لقد أخذنا ندعو في السنوات الأخيرة إلى ضرورة زيادة مساهمة القطاع الخاص في النشاط الاقتصادي لجعله قادرا على استيعاب مزيد من الخريجين، ولكننا لم نفعل في المقابل ما يسهل ويشجع على سرعة زيادة الاستثمارات في القطاع الخاص بالمعدلات التي يمكن أن تولد مزيدا من فرص العمل القادرة على امتصاص قوى العمل العاطلة. وفي الوقت نفسه نرى استمرارا في سياسة التحفظ الشديد من قبل القطاع الحكومي في استيعاب جزء من هذه الأعداد سواء في السلك المدني أو العسكري.
إن مما يصعب على العقل تصوره أن يكون لاقتصادنا هذه القوة من الفوائض المالية ويعجز عن التصدي لمثل هذه التحديات الكبيرة بالكفاءة والسرعة اللتين تتطلبهما جدية وخطورة هذه التحديات!
لقد بتنا نتحدث أخيرا عن مدن اقتصادية جديدة ضخمة وطموحة، في الوقت الذي تعاني فيه حواضرنا من هذه الاختناقات الظاهرة، دعك عما تفتقده بقية الهجر والمناطق خارج هذه الحواضر. إن بعض المتخصصين يتساءلون أصلا فيما إذا كانت خطط هذه المدن الطموحة يمكن أن تنتقل فعلا من الخرائط إلى أرض الواقع، في ظل هذا المشهد من السياسات الاقتصادية والإدارية التقليدية التي لا ترقى إلى مستوى التحديات الجديدة!
هل يمكن أن يبدأ العمل في مثل هذه المدن الطموحة في ظل قيود سياسات العمل الراهنة؟ وهل فرص العمل التي ستولدها هذه المدن ستقبل بمستوى ونوعية خريجي جامعاتنا، أم أنها ستكون مجالا خصبا لتوظيف الأجانب؟ هل الأولى أن نحلم ببناء مدن اقتصادية بهذه الضخامة، أم الأولى التركيز على تنمية الإنسان أولا ببناء مدن جامعية نوعية تستقطب سنويا أفضل ألف أو ألفي طالب من أبنائنا من خريجي الثانوية العامة؟ هل الأولوية هي في الإنفاق على المهرجانات والاحتفالات أم هي في الإسراع بتوسيع قدرات وطاقات كليات الطب والهندسة وتقنية الحاسوب لاستيعاب الحاصلين على معدلات تخرج عالية (95 في المائة) مِمَن لا يجدون فرصا للتعليم؟ هل يعقل أن تضيق الأراضي العامة في مدينة كمدينة جدة، فنعجز عن إيجاد مساحات إضافية نخصصها لموتانا؟
كتب د. سعد عطية الغامدي برؤيته الاقتصادية الثاقبة وأسلوبه الأدبي الرشيق في مقاله الأسبوعي في جريدة "الوطن" أخيرا ما نصه: "أن الاستقرار الاقتصادي إنما يعتمد على شعور المواطن بتوفر ما يحتاج إليه من ضروريات الحياة وإلا غدت الأمور خارج السياق، وأصبح السباق نحو بناء مدينتين في كل بقعة، مدعاة لمخاطر شتى، وقد تؤول إلى ما يشبه مدن أشباح فلا الجديدة تغني بزخرفها وترفها عن مواطن الذكريات ولا مواطن الذكريات كافية لتحمل النقص أو انعدام الخدمات الأساسية".
نحن في حاجة عاجلة لتقديم المصالح العامة العليا للمجتمع على ما سواها، وإلا فإن طريق النهوض سيكون طويلا جدا أمامنا، وعندها قد يبلغ تراكم التحديات حدا يصبح معه ثمن التصدي لها فادحا، في وقت قد لا نضمن فيه حتى وجود هذه الفوائض المالية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي