الكابو
<a href="mailto:[email protected]">kjalabi@hotmail.com</a>
من أجمل الكتب التي قرأت (الإنسان يبحث عن المعنى)، وكالعادة اصطدته في بيت صياد الكتب، وغطاس لآلئ الأفكار، صديقي (إبراهيم البليهي)، وفي هذا الكتاب تعرفت على ظاهرة إنسانية عجيبة، هي ظهور وظيفة (الكابو) في معسكرات الاعتقال، ففي المعسكر الجهنمي (آوسشفيتس Auschwitz) في بولونيا كان اليهود يزربون كقطعان الغنم بالآلاف، ويعهدون بقيادة هذا القطيع وتفقده، عددا وسلوكا وعلفا، إلى أحد اليهود منهم.
يقول عالم النفس النمساوي (فيكتور فرانكل) صاحب الكتاب، وهو اليهودي الذي فقد زوجته في هذا المعتقل، عندما حطت أمامه حمامة في الصباح الباكر، فكانت علامة على الحمام: لقد كان هؤلاء اليهود أشد علينا من الألمان النازيين.
وأنا أثناء وجودي في المملكة عانيت هذه الأصناف من المتعاقدين، وأشدهم كذبا من عليهم تعرفت، كان من بني جلدتي، وكان مدرسة في الكذب، يتبجح بإتقانه هذا الفن، مما يذكرني بحديث الفتنة عن حذيفة اليمان حينما وصف دعاة الفتن بأنهم على أبواب جهنم يقذفون من أجابهم إليها قلت صفهم لي يا رسول الله: قال هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا. وهو يذكرني أيضا بابن خلدون، الذي ذكر منافسيه في القضاء بكلمات قاسية، مما عانى منهم.
وهكذا فالكابو ظاهرة إنسانية تحدث في أي مستوى، سياسي في معسكرات الاعتقال، أو مهني بين الأطباء في المشافي، بين سائقي الشاحنات أو القضاة، فكله تنافس بشري أحيانا شريف، وكثير منهم فاسقون.
كل ما تحتاج إليه أن تضع إثارة من قوة في يد بشر مسخ، لترى كيف يتحول الأرنب إلى تمساح كاسر بفكين مرعبين.
وأنا ما جاءني العذاب والمعاناة إلا من هؤلاء.
وفي يوم كنت معتقلا عند الرفاق الثوريين، فكان من يشرف على تعذيبي رجل من ملتي يقيم الصلاة ويعذب، فتعجبت وعرفت أن الدين يتحول إلى طقوس ميتة، تدخل إلى روع صاحبها أنه في أحسن حال وهو شر سبيلا. والصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فإن لم تفعل كانت روتينا وطقوسا وكهنوتا.
ويروى عن أفلاطون قانون التناسب، فهو يقول إن وضع صاري عظيم في زورق صغير يميل به إلى الغرق، ورجل تافه في منصب كبير كارثة، ومسؤولية خطيرة في يد صعلوك جحيم، وشباب غير ناضجين، لم تحنكهم الأيام، يوضعون في مراكز قيادية، من دون فرامل، تعني أن يودع الإنسان هذه الأمة قبل الطوفان.
ولكن ما هي آلية حدوث مثل هذه المظاهر المفزعة من نوعية الكابو التي ذكرنا؟ إن سرها يعود إلى النفسية الإنسانية التي تطغى، أن رآه استغنى، وهي أقدم وأول مشكلة عالجها القرآن، في أول سورة نزلت من القرآن، وختمت السورة بالعلاج، وهي رفض الطاعة، وليس قتل الطاغية، لأن القتل يأتي بالقتل في دائرة شيطانية مغلقة، فيلبس الضحية ثياب الجلاد من جديد، كما حصل مع اليهود بين هولوكوست النازية وعرب فلسطين، وهي من أعاجيب قصص الدهر.
وفي يوم كان عبد الناصر من الإخوان المسلمين، وهو الذي صلبهم وشنقهم على الحبال المجدولة بعناية، وفي معتقلات الصحراء مع العقارب في ليمان طرة، وحافظ الأسد أنشأ حلقة سرية، ضمن حلقة سرية، ضمن قيادة الثورة، ثم قتل الرفاق الرفاق، حتى صفى بنفسه الحلقة الداخلية وانفرد بالأمر.
وهو ما فعله ستالين، وبول بوت، وما وتسي دونج.
والعبرة ليست بالأسماء، بل بالقانون النفسي، وفي غرفة القيادة البعثية والشيوعية في بغداد واليمن، تم تصفية الرفاق بالغدارات والطبنجات، كما فعل محمد علي مع المماليك، حتى خرج في عدن الرفاق جثثا على النقالات، أو زحفا مثل الزواحف على بطونهم إلى جهنم. وساءت مصيرا..
فهذا هو قانون النفس عبر التاريخ، ولقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب..