Author

"ولا تنابزوا بالألقاب": قالها الله ثم قالها الملك عبد اللـــه

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> يقول العزيز الحكيم في محكم كتابه "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكنّ خير منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون". و في خطابه التاريخي الذي ألقاه أمام أهالي القصيم في زيارته الأخيرة للمنطقة وجه الملك عبد الله نداء إلى جميع المواطنين، خصوصا طلبة العلم والكتاب ورجال الإعلام والصحافة بالترفع عن تقسيم الناس وتصنيفهم إلى علماني وليبرالي ومنافق ومتطرف، وغير ذلك من النعوت والألقاب والتسميات التي ما أنزل الله بها من سلطان، مؤكدا أن ذلك يتعارض مع قواعد الشريعة السمحة ومع متطلبات الوحدة الوطنية، ووصف من يفعل ذلك متعمدا بالجهل وسوء النية. وأردف، حفظه الله، أنه يرفض الشك في عقائد الناس أو ولائهم لوطنهم ما لم يثبت ذلك بالدليل القاطع والبرهان الدامغ. إذا كانت هذه توجيهات الخالق البارئ جل وعلا وتوجيهات ولي الأمر بما أوتي من سلطة روحية ومادية، وهي أيضا سلوكيات وممارسات تتمشى مع الفطرة السليمة والنهج القويم فإننا ملزمون كمسلمين ومواطنين وبشر أسوياء وأناس عقلاء أن نحترمها ونتقيد بها ونعمل بمقتضاها. هذا التوجيه الكريم هو بمثابة ميثاق شرف علينا أن نلتزم به جميعا في تخاطبنا وحواراتنا مع بعضنا البعض. دعونا نخلف وراءنا كل التصنيفات والتقسيمات الفكرية والفئوية والطائفية والطبقية والقبلية والإقليمية التي عفا عليها الزمن، والتي هي لا تزال مع ذلك تستحوذ على نفوس البعض وتعشش في أذهانهم وتسيّر سلوكهم وتنهش جسدنا الاجتماعي وتسبب لنا حالة عصاب اجتماعي. لقد أعطى قائدنا الإشارة وعلينا الآن أن ننطلق في هذا الاتجاه، اتجاه التسامح واللين والرفق في تعاملنا مع بعضنا البعض والابتعاد عن التشنج والحدة المستفِزّة في طروحاتنا وحواراتنا. لقد أصبح لزاما علينا جميعا في ظل توجيهات قائد مسيرتنا التحديثية أن نتبنّى شعار: "ولا تنابزوا بالألقاب"، وأن ننبذ التطرف والغلو والتعصب وخطابات التحريض التعبوية والفكر العدائي المتشنج والانغلاق وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وأن نتجاوز إفرازات العنف والإرهاب التي ظلت تلاحقنا وتهدد أمننا. علينا أن نتحلى بالشجاعة والوعي والنضج الكافي لمواجهة هذه الأزمة في الفهم والمفاهيم تجاه بعضنا البعض. إزاحة هذا التوتر سوف يعزز الثقة فيما بيننا لنتعايش مع بعضنا في سلام حقيقي وراحة تامة. المعطيات والتحديات الدولية الراهنة فرضت علينا مرحلة حرجة نحن فيها أحوج ما نكون إلى الالتفاف والتلاحم والانصهار في بوتقة شعور وطني واحد ورؤية جماعية مشتركة، وإلى أن ندعم وحدتنا السياسية والجغرافية ونحمي مكتسباتنا ونعززها بوحدة اجتماعية وثقافية تجعلنا نحس بأننا، إضافة إلى كوننا أبناء وطن واحد، أعضاء في مجتمع واحد متلاحم ومتماسك. دعونا نمزج المكونات الثقافية والفكرية لهذا الوطن ونصهرها لتتفاعل فيما بينها وتشكل مع بعضها البعض هوية وطنية شمولية يتماه فيها الكل وتستوعب الجميع. لقد آن الأوان لتبني الفكر التنويري المنفتح وتغيير البنية الذهنية وإعادة تكوين الشخصية النمطية حتى نستطيع مسايرة العصر والتكيف مع العالم الحديث الذي يطبق علينا من كل الجهات ويحاصرنا على كل الجبهات. منذ أن تولى الملك عبد الله مسؤولية تسيير أمور البلاد بدأت الدولة في اتخاذ خطوات مهمة نحو فتح باب المشاركة في صنع القرار مثل الانتخابات البلدية وتوسيع مجلس الشورى ليغطي التمثيل مختلف مناطق المملكة. كما أن فتح ملف الحوار الوطني بين المفكرين والمثقفين دليل مشرف على حكمة القيادة وبعد نظرها، وخطوة جريئة تلتها خطوات أخرى على طريق التصالح بيننا والاندماج الحقيقي وسد أي ثغرة أو خلل في صفنا الوطني يمكن أن يندس من خلاله من لا يريد لنا الخير. لذا فإن هذا التوجيه الأخير الذي توج به الملك عبد الله خطابه الذي ألقاه في حفل أهالي القصيم ينسجم تماما مع رؤية جلالته وتوجهاته نحو الإصلاح والانفتاح، وهو يشكل دعما جديدا لمبادرته حينما دشن مركز الحوار الوطني الذي قصد منه تعزيز ثقافة الحوار والتعاطي الحضاري مع تباين الآراء واختلاف وجهات النظر، فهو، حفظه الله، حريص كل الحرص على ترميم البناء الاجتماعي وإعادة هيكلته وفق أسس حديثة ومفاهيم عصرية وعلى كل ما من شأنه أن يزيل الحواجز التقليدية والتقسيمات الاجتماعية التي تفتتنا وتجرح شعورنا الوطني وتعوق تطورنا ومسيرتنا التنموية. وهو، حفظه الله، حريص أيضا على أن يخرج المجتمع من عنق زجاجة التخلف الفكري والثقافي ليحث الخطى ويغذ السير نحو التحديث الشامل والأخذ بأسباب الحضارة المتكاملة والتنمية المتوازنة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية، وليس فقط المادية. منذ اليوم، لم تعد الأزمة التي نعاني منها في هذا الصدد أزمة نظام، بل هي أزمة قيم ثقافية وتقاليد اجتماعية وترسبات من الماضي التي ينبغي تخطيها واستبدالها بقيم ومفاهيم أكثر تمشيا مع الحاضر ومع روح العصر ومستلزمات التحديث. لا بد لنا من بناء الثقة اللازمة التي تولد الاحترام المتبادل الذي يساعد على تحكيم العقل وتغليب المصلحة. لا بد أن نعرف أنه مهما تباينت توجهاتنا أو اختلفت آراؤنا فنحن في نهاية المطاف كلنا مواطنون وكلنا بشر نستحق الاحترام. من المفترض أن الوطن فيه متسع للجميع وكل من يمنح صفة المواطنة له مثلما لغيره من الحقوق وعليه مثلما عليهم من الواجبات، الكل في ذلك سواسية. قرارات الملك عبد الله الحاسمة ومواقفه الشجاعة منذ توليه زمام السلطة تؤكد أن منهجه في الإصلاح ينطلق من قناعاته الذاتية ويتسق مع تكوينه الذهني وينسجم مع مزاجه الشخصي وحرصه الشديد على مصلحة الوطن والمواطنين، فقناعاته القوية، حفظه الله، أهلته لتدشين المسيرة التحديثية وقيادة الحركة الإصلاحية، ويتضح من أحاديثه العامة ومن لقاءاته مع مختلف القطاعات الاقتصادية والفعاليات الاجتماعية حرصه الشديد على دفع حركة الإصلاح وأنه يمتلك رؤية واضحة وبرنامجا محددا يعمل على تنفيذه وفق مراحل مدروسة ومتدرجة. سوف يسجل التاريخ للملك عبد الله أن عهده هو عهد الإصلاحات الجذرية في نظام الحكم وأجهزة الدولة والبنية الاقتصادية والاجتماعية. ويتوقع الكثير من المحللين والمراقبين أن يكون هذا العام عام الانطلاقة الحقيقية للإصلاح في المملكة العربية السعودية. ولا شك أن جملة ما تحقق حتى الآن من إصلاحات يشكل قفزة كمية ونوعية لا بأس بها أشاعت جوا من الثقة والاطمئنان والتفاؤل بمستقبل واعد. فلقد بدأنا نشعر بارتفاع سقف الحرية الشخصية واتساع مساحة الرأي وحرية الكلمة. كما بدأت الإصلاحات الاقتصادية تتراكم وتكبر مثلما تكبر كرة الثلج، وهذا مما يكسبها زخما قويا ويعطيها قوة دفع ذاتية ويمنحها مناعة تلقائية تحد من قابلية الانتكاسات وتحصنها ضد التراجعات. وتبقى علينا جميعا مسؤولية أن نحمي ما تحقق لنا من مكتسبات سياسية واقتصادية وأن نجعل منها مكتسبات لها صفة الديمومة والتنامي. هذا ملك يريد لنا الخير والعزة والرفعة والأمان والرفاهية، لذا فإن من أبسط حقوقه علينا أن نصطف وراءه كالبنيان المرصوص نعينه ونعضده على تحمل مسؤوليات النهوض بهذه الأمة. ما يريده منا الملك عبد الله هو أن نسمعه أصواتنا ترتفع لتبارك برنامجه الإصلاحي وتؤيد خطواته التحديثية. المأمول من الجميع أن يقفوا معه ويثقوا بحكمته وسداد رأيه، فهو رجل محنك نافذ البصيرة، ولا أحد يحرص ويسهر على مستقبل هذا البلد ومصلحته وأمنه واستقراره ورخائه مثل حرصه وسهره رعاه الله وأمد في عمره. إنه ينام ويصحو وكاهله مثقل بهموم الوطن والمواطنين. قلبه ينبض بالإخلاص لهذا الوطن وعروقه يسري فيها حب المواطن. إن الدموع التي فاضت من ناظريه حينما حيا أبناء شهداء الواجب في حفل القصيم فيض من حنانه وحبه لوطنه وأبناء وطنه. يمكن للإنسان أن يتصنع البكاء ويتظاهر بالحزن والأسى، ولكن إذا ذرفت الدموع واحمرّت المقلتان فالبكاء صادق والمشاعر صادقة لا ريب.
إنشرها