Author

نحن الآخر .. من يملك الحقيقة؟

|
<a href="mailto:[email protected]">[email protected]</a> إن كنا جادين في حوارنا مع الآخر، فالحوار البناء له شروط ومتطلبات. أولها أننا إذا جلسنا معهم نجلس على طاولة مستديرة وإن وقفنا نقف على قدم المساواة، وأن نقر بمبدأ تبادل الأدوار، بمعنى أن ندرك أننا "آخر" من منظورهم هم مثلما أنهم "آخر" من منظورنا، وأنهم يعتبرون أنفسهم "نحن" مثلما أننا نعتبر أنفسنا "نحن". والهدف من الحوار ليس تغيير المواقف وإقناع الآخر بتبني مواقفنا جملة وتفصيلا والذوبان في "نحننا"، وإلا تحولت العملية إلى حمل لواء الدعوة والتبشير الديني بدلا من السعي إلى حوار حضاري حقيقي. الهدف من الحوار هو تفهّم المواقف وليس تغيير المواقف، أن يفهم الآخر مواقفنا ونفهم مواقفه والدوافع وراء هذه المواقف ومن ثم البحث عن أرضية مشتركة تمكننا من التعايش بسلام رغم اختلاف المواقف والمنطلقات. من لديه قناعة تامة بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة لا يمكنه الدخول في حوار مثمر مع أي طرف آخر لأن الطرف الآخر أيضا له مواقفه التي تخدم مصالحه وقناعاته التي تتماشى مع طريقته في التفكير. الذهنية التي ترى أن قناعاتها فقط هي الصحيحة وما خالفها من القناعات خاطئة هي أقرب إلى الذهنية البدائية التي تؤمن بالمطلق وترفض التعددية. لقد أدرك العالم المتحضر بعد صراع طويل مع المطلق أن كل شيء مرهون بزمانه ومكانه وظروفه التاريخية والبيئية، وأن الأمور في نهاية المطاف كلها نسبية، من النسبية الرياضية التي نادى بها أينشتاين إلى النسبية الثقافية التي نادى بها الأنثروبولوجيون. أضف إلى ذلك نظرية التطور التي تقول إن التغير سنة من سنن الكون الذي لا يمكن الوقوف في وجهه. وبذلك تحولت نظرتهم إلى العالم من نظرة سكونية إلى نظرة ديناميكية حيوية لها القدرة على التكيف والتعامل مع التغير والتعددية. إنه لمن المكابرة وقصر النظر أن نتجاهل ما توصل إليه الآخر من إنجازات حضارية حققها بعد كفاح مرير وتضحيات جسيمة ونتوقع منه كي يجارينا في حوارنا معه أن يعود أدراجه في التاريخ إلى الوراء ويتقهقر إلى تلك المرحلة من ماضيه التي كان فيها تفكيره آنذاك يتمشى مع تفكيرنا الآن وسلوكه يتمشى مع سلوكنا. من يعيش في مجتمع يحكمه القانون وتسوده العدالة وتتحقق فيه كرامة الفرد وحقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير لا يمكن أن يتراجع عن كل هذه المكتسبات ويعود القهقرى لينفض الغبار عن قناعات خبرها وكافح ليتخلى عنها ويودعها إلى غير رجعة. ومن المضحك والمستهجن، في نظر الآخر، أننا بينما نسمح لأنفسنا أن نستمتع وبشراهة منقطعة النظير بكل ما تنتجه مصانعه من أجهزة ومعدات فإننا في الوقت نفسه نرفض وننكر ما يقف وراء هذه المنجزات التقنية من علم وفكر، بل إن منا من يوظفها في محاربة هذا العلم والفكر الذي يقف وراءها وفي تكريس التخلف ونشر الدمار بدلا من تعمير هذا الكون الذي هو أعظم مسؤولية ألقاها الخالق على عاتق الإنسان وأعظم كرامة كرمه الله بها. ولا ننس أن الآخر مؤهل للحوار معنا أكثر مما نحن مؤهلون للحوار معه. لماذا؟ لأننا لا نعرف عنه شيئا بينما هو يعرف عنا أكثر مما نعرف عن أنفسنا. علينا أن نعترف بأن اكتشافنا لكنوز حضارتنا جاء عن طريق مدارس الاستشراق التي نبهتنا لهذه الكنوز ونحن عنها غافلون. أليس علماء الآثار عندهم هم الذين نبشوا حضارات الشرق القديم؟ ألم نزل مضطرين للجوء إلى خبرائهم وما يصدر عن مؤسساتهم الأكاديمية ومراكز الأبحاث ودوائر الاستخبارات عندهم لمعرفة أي شيء نريد معرفته عن شعوبنا وأوطاننا وثرواتنا وعن مجتمعنا وثقافتنا؟ ألسنا نرتجف خوفا من مقاطعتهم لنا قناعة منا أننا لا نستطيع تدبر أمورنا وتسيير شؤون حياتنا من دون مساعدتهم لنا؟ من منا أكثر حاجة إلى الآخر؟ بل من منا حقيقة هو الآخر؟ كم لدينا في جامعاتنا ومؤسساتنا الأكاديمية من كلية، أو حتى قسم، لدراسة الثقافات والمجتمعات والأمم الأخرى؟ كم لدينا من الخبراء المحليين الذين يجيدون التعامل والتحدث مع الشعوب الأخرى؟ بل إننا لم نلتفت حتى الآن لدراسة مجتمعاتنا وثقافاتنا دراسة أكاديمية جادة. إننا ندرس اللغة الفصحى لكننا لا ندرس اللهجات المحلية، ندرس الدين لكننا لا ندرس المعتقدات الشعبية، ندرس الثقافة الرسمية لكننا لا ندرس الثقافات التقليدية، ندرس تاريخ الدول والملوك لكننا لا ندرس تاريخ الشعوب والمجتمعات، وهلم جرا. ليست لدينا معرفة موثوقة بواقعنا الاجتماعي ولا نعرف حقيقة كيف يفكر معظم الناس عندنا ولا بماذا يفكرون ولا ماذا يريدون. بل من منا أصلا يستطيع أن يقول ما يعتقده أو يعبر صراحة عما يفكر فيه! لا يزال خطابنا في كل المجالات مشبعا بالمقولات الرنانة ومثقلا بالشعارات الطنانة ومسكونا بهاجس الخوف والرقابة الذاتية، وما زلنا بعيدين عن مرحلة التفكير الحيادي الموضوعي الحر الذي يبحث عن الحقيقة وبس. غالبيتنا لديها قناعة بأن الولاء الحقيقي للوطن والتمسك الصادق بالدين هو أن يكون كل واحد منا نسخة كربونية من الآخر في كل شيء، ليس فقط في التفكير والمعتقد، بل حتى في المأكل والمشرب والملبس وكل مناحي السلوك، وأي خروج عن هذا المسار الضيق يعد شذوذا وتحريفا للصورة الأصل. إذا افتقدنا التسامح فيما بيننا فكيف لنا أن نكون متسامحين مع الآخر! هاهي مآذننا تصدح في عواصمهم وهاهي الجاليات المسلمة تنشط في بلدانهم وترفع صوتها عاليا في الهواء الطلق، بينما نحرم نحن على من يقيم منهم بين ظهرانينا أن يحتفل بمناسباته الدينية في بيته خلف الجدران والأبواب المغلقة. وها نحن نلعنهم في صلواتنا ونفرٌ منا يمتشقون السيوف والعبوات الناسفة ليجبروا الناس على الدخول في حظيرة الدين بينما هم يبنون المستشفيات ويقدمون المساعدات الإنسانية ويصلون للمنكوبين. لا يمكننا فصل الدين عن الحضارة، فالمجتمعات المتحضرة تمارس دينها، أيا كان ذلك الدين، وتدعو إليه وفق أساليب متحضرة وتقدمه كخيار حر لمن يجد فيه ما يروي ظمأ الروح ويقود إلى طمأنينة النفس ويلبي حاجة الوجدان ونوازع الضمير. هذا الحديث عن الحوار مع الآخر ليس مجرد شطحات نظرية فأنا لا أتحدث من فراغ وإنما من رصد ومراقبة للأحداث. لكنني لا أجرؤ على إيراد الأمثلة التي تبين مدى ما نبذله كأمة من جهد على الساحة الدولية في محاولاتنا لشرح مواقفنا وإقناع الآخرين لتفهم وجهة نظرنا، لكننا في المقابل لا نبذل أي جهد يذكر لتفهم وجهة نظر الآخرين ومواقفهم. ولنترك الساحة الدولية جانبا ونلتفت إلى المشهد المحلي. أليس ما حدث في معرض الكتاب الأخير خير دليل على عدم قدرتنا على الدخول في حوار حضاري بناء ومفيد فيما بيننا؟ وهذه الساحات تعج بالكتابات التي يندى لها الجبين من سب وقذف وتجريح لشخصيات اجتماعية وقادة فكر ومسؤولين كبار لمجرد الاختلاف معهم في الرأي أو التوجه. من يمارس الكتابة الصحافية يدرك ما نعانيه من افتقار إلى أدبيات الحوار من الردود التي يتلقاها والمداخلات والتعليقات. أنا هنا لا أتكلم عن الاختلاف في وجهات النظر، فهذا أمر مسلم به، بل مطلوب. إنني أتحدث عن الأساليب والطرق التي يعبر بها البعض عن اختلافهم معك، أساليب فجة وغوغائية. والمؤسف أن هذه الأساليب ليست حكرا على خط فكري معين أو توجه محدد، بل سمة عامة. إننا في معظم الأحوال متشنجين في حواراتنا وطروحاتنا مهما كانت القضية المطروحة ومهما كان أسلوب الطرح. ولأتحفكم ببعض من الأدواء التي تجرعتها. فحينما كتبت عن موضوع كنت أظنه مسالما وحياديا، وهو موضوع انحسار البداوة كتب لي أحدهم (هل الحضارة هي الأيديولوجيا والإيكولوجيا والأنثروبولوجيا التي ترددها مدعيا الثقافة! إذا كنت تعتقد أن القبائل البدوية اختفت من الوجود فمد يدك أو تلفظ على طفل من أطفالهم يا مستر صويان)، هذا مع العلم أنني لم أتطرق إلى هذه اليولوجيات التي سردها المعلق، ومع ذلك أسأل: إن لم تكن هذه اليولوجيات جزءا أصيلا من الثقافة، فما الثقافة إذن؟! وحينما كتبت عن الإبل الذي كنت أظن أيضا أنه موضوع لا يسيء إلى مشاعر أي أحد، علق أحدهم يقول (إذا كان تخصص البدوي استيلاد الإبل فما هو تخصصك يا مستر صويان؟ تتخبط بمقالات عديمة القيمة والهدف، كثيرا ما تكتب عن البدو! هل هذا تخصصك أم هو الحقد الدفين؟ قابلهم وجها لوجه لتختبر رجولتهم). كيف يمكن الدخول في حوار مفيد مع إنسان يسمح لنفسه بالنزول إلى هذا المستوى في مخاطبة شخص بريء من دمه وعرضه؟! أما حينما كتبت مقالا بعنوان "رايات الإصلاح بدأت ترفرف", علق أحد القراء بما يلي (لكي يقبل الناس فلسفتك منتهية الصلاحية فعليك ألا تخجل من وضع صورتك الحقيقية) فما دخل صورتي بالفكر الذي أطرحه؟! أما من علق على مقالي: "الديمقراطية نسخة عربية معطلة"، بالقول (يا سخف مقالاتك، هذه لوثة الغرب، أنفقت عليك البلد لتقدم مخترعات وإذا بك تأتي بفكر خرب) فإنني لا ألومه حيث يبدو أنه يعاني حساسية جلدية ضد الديمقراطية. لكن مع ذلك تبقى هناك حلقة فضية مضيئة تحيط بهذه السحابة الداكنة. فقد تلقيت العديد من ردود الفعل الإيجابية والمهذبة. وأنتهز الفرصة لأوضح للقراء الذين يرسلون تعليقاتهم عبر رقم الجوال الذي يظهر أسفل المقال أن رسائلهم تصلني عن طريق الجريدة دون أن تظهر أرقامهم مما يعني أنني لا أستطيع الرد عليهم أو تلبية طلباتهم, فعذرا لهم مع جزيل الشكر.
إنشرها