متى كنتَ مسؤولا .. فكن شجاعاً!
مع الوقت صرنا نكرر كلمة المسؤول والمسؤولية حتى صرنا مع التكرار لا نقف على كل المعنى، أو أهم ما في المعنى. قلة إلمامنا بهذا المعنى، أو قلة اكتراثنا، هي السبب الأول في سوء العمل الإداري في القطاع العام. إن قلة العناية والالتزام بمعنى المسؤولية كتفسيرٍ، وكمبدأ، مثل كرة الثلج، متى ما تكونت وبدأت تنحدر، فإنها تكبر وهي تهوي من الأعلى وتجرف معها كل ما يعترض في الطريق. تساهل معنى وقيمة وأهمية المسؤولية هو الجرافة التي تقلع في طريقها كل معاني الإدارة الصالحة.
فالمسؤولية ببساطة هي "تحمّل" المسؤولية، وليس التمتع بها أو استغلالها. وهي مسؤولية ثقيلة تلقى على عنق المسؤول العام وعلى ضميره. المسؤولية هي أن تحمل أمانة من أهم الأمانات.. مصير الناس، في أشد الأحوال، وفي حقهم في العيش الكريم وهناء حياتهم في كل الأحوال. أي أن المسؤول، بالمعنى الواضح، إنما هو موجود في المنصب ليؤدي خدمة حددتها واجبات الوظيفة، وعليه أن يوفيها بالتمام والكمال، أو أن يجتهد حقيقة في أدائها، وإن أخطأ سيجد الناس له الأعذار، قبل أن يضطر هو للتبرير. وهنا ينبع الفرق الساطع بين المسؤول الشجاع، والمسؤول غير الشجاع.. ولهذه الشجاعة معيار قاطع ـ فيما أعتقد به بقوة ـ وهو القدرة على مواجهة الناس، في أي وقت، في أي مكان. الشجاعة هي قوة المواجهة. ضعف المواجهة، والتهرب منها، هي أكثر الأدلة حضورا على فقر في الشجاعة.. وعندما تختفي الشجاعة، تختفي معها بالتبعية القدرة على تحمل الأمانة.
والناس، قلنا، هم المقياس، خصوصا إذا كانت المسؤولية هي لخدمة الجمهور العام، أو جمهور خاص.. على أن معظم القطاع الرسمي الخدمي إنما يمس حياة جمهور الناس إما مباشرة أو بطريق غير مباشر. والناس، كما يعلم المسؤول الشجاع، أنهم يحكمون حكما مبرَّرا إما بالواقع الدامغ، أو بالرأي الجامع، وهو يقدِّر أن مواجهتهم إنما هي من طبيعة مسؤوليته، وعليه أن يفعل ذلك في كل الأحوال، وإن أدى الخدمة كما يجب فسيحب أن يراها في عيون الناس، وعلى ألسنتهم، وهذا سيعطيه المؤشر الحقيقي، وليس فقط التقارير التي تصل مكتبه من مختلف الإدارات تحت رياسته.. بل إن التقارير في أحيان ليست قليلة لا تعطي المؤشر "الواقعي" – بطبيعتها!
إن المسؤول الذي يتهرب من المواجهة ـ وأقصد المواجهات المنظـَّمة والمبرمجة بالتحديد ـ هو مسؤول ليس فقط تنقصه الشجاعة، بل تنقصه الحكمة. ونقول تنقصه الحكمة لأنك حتى إن كنت مسؤولا تؤدي واجب المنصب بالحرف وبلا تقصير، فعندما لا تخرج لتتصل بالناس ويتصلون بك فهذا بعينه إخفاق، كما أنه يدل على التكبر والترفع.. وهنا نقول أن المسؤول فقد الاتصال الواقعي مع مجتمعه الذي يخدمه، وبالتالي نعود بالمنطق ونصحح فنقول إن المسؤول الذي يقطع الحبل السري الذي يربطه بمشيمة المجتمع، لن يكون قادرا على خدمة المجتمع، على الأقل، كما يتمنى المجتمع.. نعرف أن فقدان الاتصال أو ضعفه.. يخلق فراغا، فراغا فقط، مهما بأي شيء مُـلئ.
والناس لا تتحمل ولا تطيق المسؤول المتعالي على الناس، بينما المسؤول الشجاع والحكيم هو الذي يستند إلى الناس وينفتح عليهم كلما أمكنه الانفتاح .. لذا نصل إلى صفة مهمة تخلق درعا حمائية للمسؤول وهي "الكاريزما". المسؤول الذي ينفتح على الناس، ويتصل بهم، ويخرج لهم في الندوات المنظمة، ويتسع صدره للانتقاد يكسب الناس بصورة مذهلة، شخص مثل هذا لا يبرر الناس أخطاءه فقط، بل هم يحبون أن يفعلوا ذلك.. لأنهم بحسهم العام يعرفون أنه منهم ولهم.. وأن الخطأ ليس عيبا، وأن أجمل وأقوى المسؤولين هم من قالوا يوما نعم هذا خطأ، ويعلم الناس مؤكدا أنه لن يسمح لنفسه أن يقول هذا الاعتراف مرة أخرى.. فلن يتعمد تكرير الخطأ. تجد أن مسؤولين كثيرين خلقوا شعبيات طاغية فوق واقع الإنجاز، لأنهم بحكمتهم وشجاعتهم عرفوا أن يتصلوا بالناس، وحرصوا على ذلك.
في برنامج جديد تعرضه القناة الأولى تحت عنوان "نبض المجتمع" انكشفت فيه فكرة قوية ونافعة، وهي أن يأتي الناس ويتكلمون عن مشاكلهم بحضور المسؤول.. هذا برنامج نشكر وزارة الإعلام عليه، وهو رسالة منها للناس تقول:" نحن فعلا تهمنا مشاكلكم، لأنكم تهموننا" وستعجب أن تعلم أن الناس أحيانا يريدون فقط أن يتكلموا، ويعرضون مصاعبهم، ومعاناتهم.. هم يعلمون أنه ليس هناك مارد يخرج من قمقمه ويضرب بعصاه فإذا المشاكل كلها اختفت. والسماع للمشاكل ينفس عن الغضب، والغضب يقود مع تراكمه إلى نتيجة لا يريدها أحد.. الانفجار!
وأن مسؤولا مثل الدكتور سمير العمران مدير عام تعليم البنات في المنطقة الشرقية أثبت حكمة حينما اتصل بمدير تلفزيون الدمام، وبي شخصيا، حين لم يتمكن من حضور مواجهة مع أول جمهور في أول برنامج يحملون معهم مشاكلهم، ولأنه يعي مسؤوليته فهو طلب أن تكرر فرصة أخرى لفرصة مشابهة، ليتمكن ويحرص على الحضور.. بل اعتبر ذلك خدمة تقدمها له إدارة التلفزيون.. وفرح قلبي، وقلت لنفسي هذا هو صديقي لذي أعرفه قبل الوظيفة.. الذي في أول حديث لنا عرفت صفة من صفاته.. المواجهة.. الشجاعة. وكان المهندس عثمان الباحسين مدير عام المواصلات والطرق في الشرقية حاضرا ووضح للناس ـ ولي ـ أشياء كانت غائبة عنا ومختلطة في أذهاننا.. وعندما تختلط المعلومات فقد يلوم الناس من لا يستحق اللوم. البرنامج كما أعرف سيكون مساء كل سبت ـ أي مساء اليوم ـ وهو برنامج إن لقي مواصلة وتأييدا ودعما من كل الجهات، فسيكون من أكثر البرامج رواجا، وتنفيسا للناس، ودليلا ساطعا على الاهتمام بهم.
وقبل أن نطوي المقال أقول إن المسؤول الشجاع هو الذي يعرض صدره للناس، والمسؤول غير لشجاع هو الذي يتحصن وراء متاريس مكتبه!