Author

الديمقراطية: نسخة عربية معطّلة

|
لنستعرض التجارب الديمقراطية في عالمنا العربي، وهي ليست قليلة. القليل فيها هو نسبة النجاح. كانت للسودان تجربة، وللجزائر. وما زلنا نراقب التجربة المصرية والفلسطينية والعراقية، وهلم سحبا من الأردن إلى اليمن إلى الكويت. لن أدخل في لعبة سرد التواريخ والتفاصيل، فليس هذا مربط الفرس الذي أريد أن أمسك بعنانه ولا بيت القصيد الذي أريد أن أحدو به، فنحن كثيرا ما نغرق في التفاصيل وننسى الدرس المستفاد ونغفل النتيجة المستخلصة. ما أريد أن أصل إليه هو أنه ليس من الديمقراطية في شيء أن يصوّت الناخبون وفق مبدأ "اسلم على قردك لا يجيك أقرد منه" ولا أن تُضمر أقوى الأطراف المتنافسة النتيجة وتحددها قبل فرز الأصوات، ولا أن تدخل اللعبة الديمقراطية لأنك خارج السلطة وتريد أن تدخل وفي نيتك إن دخلت ألا تخرج. وليس من الديمقراطية في شيء الاستهانة بنماذج الاستفتاء واستبدالها بالعصي والهراوات وأعقاب البنادق من أجل حسم الموقف لصالح هذا أو ذاك. من يمارس هذه الحركات مع الصبيان في ألعابهم البريئة يسمونه "غشاش" ويرفضون اللعب معه، فما بالك بمن يمارسها في لعبة السياسة، تلك اللعبة الكبيرة والخطيرة؟ هذه ليست ممارسات ديمقراطية، فلا ديمقراطية الهراوات والسواطير ولا ديمقراطية الفزعات القبلية والمفاطيح هي ديمقراطية حقيقية. هذه الممارسات كفيلة بتحويل صناديق الاقتراع إلى توابيت لرمس الديمقراطية في مقبرة الجهل والتخلف. قارن ما يحدث من بلطجة في عالمنا العربي بما حدث في أوروبا الشرقية التي استطاعت بعد انفراط عقد الاتحاد السوفياتي أن تتحول إلى دول ديمقراطية في فترة قياسية قصيرة! بدءا من الحركة العمالية التي انطلقت من غدانسك، العاصمة البولندية، بقيادة ليخ فالينسا إلى المظاهرات البرتقالية التي أطاحت بالحكومة التي زورت الانتخابات في أوكرانيا إلى المظاهرات الشعبية الحاشدة التي استولت على قصر الحكم في رومانيا وطردت منه الطاغية تشاوسيسكو. لقد استطاع هؤلاء أن يغيروا حكوماتهم الشمولية المستبدة إلى أنظمة ديمقراطية دون أن يتّشحوا بالسواد أو يتمنطقوا بأحزمة ناسفة. الديمقراطية عند هؤلاء تضرب بجذورها في عمق التاريخ الأوروبي الذي يمتد إلى ما قبل ميلاد المسيح بعدة قرون، بدءا من نظام دولة المدينة عند اليونان إلى الحقوق الطبيعية المستمدة من الفلسفة الرواقية إلى القوانين المدنية المستمدة من الحكم الروماني. منذ آلاف السنين كانت روما ومن قبلها أثينا تمارس فيها الديمقراطية وتحكم من قبل البرلمانات ومجالس الشعب المنتخبة. ديمقراطياتهم تقف على أرضية تاريخية صلبة عززتها لاحقا حركات الإصلاح الديني التي قادت إلى فصل سلطة الكنيسة والبابا عن سلطة الدولة. وتبلورت الديمقراطية الأوروبية وتحققت فعليا وبشكل لا رجعة فيه من خلال التعددية الحزبية ومن خلال فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية عن بعضها البعض وإبعاد العسكر نهائيا عن حلبة الصراع السياسي. حينما يذهب الشخص الأوروبي إلى صناديق الاقتراع للتصويت فهو لا يذهب ليصوت لابن طائفته أو ابن عمه أو من ينتمي لمذهبه، بل يذهب ليصوت على برنامج سياسي واقتصادي محدد وواضح المعالم يعبر عن وجهة نظره ويخدم مصلحته ويدعم التوجهات الفكرية التي يؤمن بها. التصويت عندهم ليس فزعة ولا نخوة، إنه واجب ومسؤولية وأمانة، وهو فوق ذلك حق يحرص الفرد على التمسك به. الممارسة الديمقراطية عملية ديناميكية تقوم على الحركية السياسية والاجتماعية وسياسة الشد والجذب القائم على المناورات والتفاعلات التي لا تتوقف، لذا يصعب تطبيقها في المجتمعات السكونية التي لا تؤمن بالتغير ولا تعرف فن التفاوض وسياسة الأخذ والعطاء وترفع شعار "لنا الصدر دون العالمين أو القبر". لا تصلح الديمقراطية لمن لديه قناعة راسخة أنه يملك الحقيقة المطلقة وأنه هو الوحيد الذي على صواب وكل من سواه على خطأ. الديمقراطية لا تؤمن بالحقائق المطلقة. الحقائق بالمفهوم الديمقراطي مجرد وقائع يخلقها البشر على أرض الواقع من خلال ممارساتهم العملية، فهي ليست إلا ترتيبات مؤقتة يمكن تغييرها عن طريق التفاهم والمساومات كلما دعت الضرورة. إنها القدرة على التكيف البناء والإيجابي والمستمر مع الظروف المستجدة. الفلسفة الديمقراطية ليست فلسفة مثالية إنما هي فلسفة براجماتيكية وسطية هدفها تحقيق أكبر قدر من النفع لأكبر قدر من الناس. إنها في الصميم وجهة نظر تجارية لذا يرتبط ازدهارها بازدهار الممارسات الرأسمالية الرشيدة التي تتسم بالمرونة وتهدف دوما إلى تعظيم المكاسب وتقليص الخسائر إلى أبعد حد ممكن. على الرغم من انشغالنا المفرط بالسياسة واستئثارها بجل حواراتنا الفكرية وأحاديثنا في المجالس، إلا أننا لا نفقه طبيعة آلياتها ولا ندرك حقيقتها. أحاديثنا السياسية تتمحور حول الأندلس والمجد الغابر وتدور في حلقة المؤامرات الماسونية والصليبية والصهيونية والاستعمار. وسواء كنت تنتمي إلى الفريق الذي ينتمي إلى ذهنية المؤامرات كسبب فيما نعاني منه أو كنت تنتمي إلى فريق الانقلابات كمخرج مما نعاني منه، فأنت إنسان اتكالي وكسول وما موقفك هذا إلا محاولة يائسة لإبراء الذمة والتنصل من المسؤولية. فنحن المسؤولون أولا وأخيرا عن الوضع المتردي الذي نعيش فيه وتقع على عاتقنا جميعا مسؤولية الخروج منه وتجاوزه. لا ينبغي أن نضيق دائرة الفعل السياسي ونحصره في الجهاز الحاكم أو الدولة. فكل نشاط عام هو، بشكل أو بآخر، نشاط سياسي، وكل واحد منا، شئنا أم أبينا، يمارس السياسة، لأن كل دور مهني أو نشاط اجتماعي تؤديه هو في النهاية عمل سياسي يصب إما في مصلحة الوطن أو ضد مصلحة الوطن وفي تقدم المجتمع أو تأخره. لا يجوز أن نكتفي بأن نضع اللوم كل اللوم على الأنظمة الحاكمة ونتنصل من مسؤولياتنا الوطنية كأفراد بحجة القمع وذريعة تردي الظروف، ولا أن يشغلنا الحديث في السياسة عن أداء واجباتنا المهنية وأدوارنا الاجتماعية على الوجه الصحيح. من الخطل أن نركن إلى الدعة والسكون ونتوقع أن يُبعث فينا سوبرمان أو سوبر نظام لينتشلنا مما نحن فيه ويحقق لنا بمفرده ومن دون مشاركة منا كل ما نصبو إليه من عزة ورفعة وسؤدد وحرية ورخاء. كما أنه من الخطل أن نتوقع أن يحدث ذلك كله دفعة واحدة بين عشية وضحاها ومن دون جهد منا. إن مسيرة الإصلاح مسيرة كفاح طويلة وشاقة. إنه جهاد مع النفس وليس جهادا ضد الآخر. قبل أن نطالب بالديمقراطية على صعيد الممارسة السياسية علينا أولا أن نؤسس لها قاعدة للانطلاق وأن نهيئ لها الأرضية الخصبة والمناخ الملائم وأن نزرع بذورها في أذهاننا وعقولنا وفي بيوتنا ومدارسنا ومناهجنا وأماكن عملنا وفي أحاديثنا وحواراتنا وفي تعاملنا مع بعضنا البعض. قبل أن نطالب بالديمقراطية على الصعيد السياسي علينا أن نؤمن بها ونعمل على ترسيخها كسلوك فردي وكقيمة ثقافية وممارسة اجتماعية في كل شأن من شؤون حياتنا. نجاح الممارسات الديمقراطية يتوقف على تأسيس منظومة فكرية متماسكة تسندها وتدعمها بحيث تشكل الديمقراطية مكونا أساسيا من مكونات هذه المنظومة وعنصرا من أهم عناصر بنائها. فلا يمكن ممارسة الديمقراطية في حياتنا السياسية إن لم تتجذر في الثقافة وتتأصل في المجتمع ونمارسها في كافة شؤوننا الحياتية.
إنشرها