المشاريع الصغيرة مصدر مهم للإبداع التكنولوجي

انتهى قبل أيام المؤتمر الخاص بالمشاريع الصغيرة في المنطقة الشرقية مناقشا كل ما يتعلق بالمشاريع الصغيرة تقريبا من جوانب إدارية وتمويلية وأساليب تشجيع وترغيب لمن يريد أن يلج هذا الميدان المهم من ميادين الأعمال. وفي حقيقة الأمر، المشاريع الصغيرة الآن تشكل النسبة الأكبر من الأعمال في المملكة بحيث أن الجزء الأكبر من الشركات الصناعية هو من هذا النوع شأنها في ذلك شأن الكثير من اقتصادات دول العالم المزدهرة. ولكن يجب أن نعرف أن العبرة ليست في عدد المشاريع الصغيرة فقط بل نحن بحاجة لتشخيص أمور كثيرة مرتبطة بما تنتج هذه المشاريع من سلع وخدمات منتبهين إلى أن هناك حقيقة عالمية مهمة اليوم وهي أن ميزة الأعمال في عالم الاقتصاد الرقمي هي المنافسة الحادة وكثرة المنتجين لنفس السلع والخدمات وأن المنتجات التي كانت حكرا على بعض الدول أو الشركات في الستينيات أو السبعينيات من القرن الماضي أصبحت تنتج بكميات كبيرة في جميع دول العالم وبجودة عالية بل ومن قبل شركات صغيرة وأحيانا عائلية. كذلك هناك سرعة في تسليم هذه المنتجات فضلا عن الثورة المعلوماتية وما تمخض عنها من ابتكارات، كل هذا أدى إلى البحث عن عنصر جديد للمنافسة تستطيع الشركات خصوصا الصغيرة منها البقاء معه في السوق والاحتفاظ بمركزها التنافسي. إن هذا العنصر التنافسي الجديد هو ما نسميه الإبداع التكنولوجي، وهو يعني واحدا من أربعة عناصر: تقديم منتج جديد تماما للسوق أو تحسين المنتجات الموجودة حاليا وتحويرها وكذلك ابتكار عمليات وأساليب إنتاجية جديدة أو تحسين وتحوير العمليات والأساليب الإنتاجية المستخدمة حاليا. وتجدر الإشارة هنا إلى أننا عندما نذكر كلمة منتج فإننا نعني بها سلعة مادية أو خدمة.
ما نريد أن نعالجه في هذه السطور هو إمكانية جعل هذا الكم الكبير من المشاريع الصغيرة مصدرا لتقديم الإبداعات التكنولوجية بصورها المشار إليها أعلاه بشكل مستمر وأن يأخذ طابع المؤسسة وليس الحالة العرضية المنفردة وهذا أمر نحن أحوج ما نكون إليه بعد أن قطعت فيه الدول المتقدمة شوطا بعيدا. وأحسب أن سبب الفجوة الكبيرة بين المشاريع الصغيرة في تلك الدول ومثيلاتها في المملكة هو أن الكثير من الناس وحتى المتخصصين منهم في شؤون الصناعة والاقتصاد والأعمال عندنا ما زالوا يعتقدون أن الإبداع التكنولوجي صعب التحقيق من قبل المشاريع الصغيرة وأنه سمة من سمات الشركات الكبيرة وذلك لأسباب متعددة مثل قدرة الشركات الكبيرة على توفير أموال كثيرة يمكن أن توظف باتجاه البحث والتطوير وبالتالي إنجاز أبداع تكنولوجي مهم ممكن أن يكون له مردود كبير في المستقبل. كذلك فإن أقسام البحث والتطوير في الشركات الكبيرة تشتمل على عدد كبير من الباحثين والفنيين وهؤلاء هم عماد عملية الإبداع والتطوير فيها. كذلك فإن الإبداع التكنولوجي في هذه الشركات والذي يؤدي إلى تخفيض التكاليف سوف يحقق أرباحا كبيرة وهذا النمط شائع في الشركات الكبيرة حيث كثيرا ما توجه الجهود لابتكار أجهزة أو عمليات وأساليب إنتاجية وتنظيمية تخفض التكاليف فضلا عن قدرتها على تحمل المخاطر الناجمة عن فشل بعض مشاريع الإبداع التكنولوجي مما يعني هدر أموال كثيرة مقابل لا شيء. إن هذه التصورات ربما كان بعضها أو كلها صحيحا في العقود السابقة ولكن في عالم اليوم وفي ظل الإمكانات الهائلة المتاحة واختلاف طرق التفكير الاقتصادي تستطيع المشاريع الصغيرة إنجاز الكثير جاعلة من صغر الحجم ميزة تنافسية باتجاه سرعة الاستجابة للتغيرات والقدرة على تحمل المخاطر وامتصاصها بفاعلية تتفوق فيها على الشركات الكبيرة التي تفتقر إلى المرونة في مواجهة التقلبات الاقتصادية والهزات السياسية المفاجئة. كذلك تستفيد الشركات الصغيرة من الفجوات البحثية والإبداعية التي تتخلى عنها الشركات الكبيرة لأسباب كثيرة وتستفيد من صغر حجمها ومرونتها وقدرتها على تحمل المخاطرة لتحقيق إنجاز له مردود مستقبلي مجز. ولا ننسى أن الكثير من المشاريع الصغيرة تشكل تجمعات صغيرة للكثير من الشرائح المهنية عالية التخصص يندر أن توجد مجتمعة في مكان آخر كما هو الحال في بعض المختبرات الطبية وهذه يمكن أن تنتج بعض السلع أو بعض الخدمات قد يقدر أنها تسهم بفاعلية في دعم الناتج المحلي الإجمالي للدولة.
بعد استعراض مزايا النوعين من الشركات في ما يتعلق بالإبداع التكنولوجي بشكل عام فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف يمكن أن تدعم المشاريع الصغيرة السعودية لكي تكون مبدعة بشكل يسهم ليس في حل مشكلة البطالة فقط بل بدعم الاقتصاد السعودي وزيادة متانته عن طريق تقديم منتجات ذات مردود عالي وجودة عالية؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد من التشجيع أولا على الولوج إلى ميادين تصنيع منتجات غير تقليدية سواء في مجال تكنولوجيا المعلومات أو الإلكترونيات أو البتروكيماويات وغيرها مستفيدين من التطور التكنولوجي والعلمي الذي توجد ركائزه في الاقتصاد السعودي. إن هذا الأمر يدفع القائمين على هذه المشاريع إلى استقطاب الشباب المبدع الذي تعده الجامعات والمعاهد المنتشرة في المملكة ويمكن أن تلعب الجهات المختلفة حكومية كانت أو غير حكومية دورا مهما في البحث عن هؤلاء المبدعين وتوجيههم باتجاه هذه المشاريع. ومن جانب آخر فإن ما يسمى حاضنات الأعمال لهؤلاء المبدعين والموهوبين يمكن أن تفعل الكثير في هذا الاتجاه وكلما زادت العلاقة رسوخا بين الوحدات الأكاديمية من جامعات ومعاهد ومراكز بحث وبين الشركات الصناعية زادت فاعلية هذه الحاضنات ولا ننسى أن هناك بنية تحتية علمية ممتازة وفيها من الإمكانيات ما يساعد على ازدهار نشاط التعاون الأكاديمي الصناعي ولنا مثل حسن في دول أخرى في مجال صناعة الأدوية والمنتجات الطبية حيث أدى التعاون بين كليات الصيدلة وأقسام الكيمياء الصناعية وبين المختبرات الطبية ومصانع الأدوية إلى نتائج مذهلة حيث كان الدور الرئيسي لمشاريع صغيرة يعمل فيها متخصصون يركزون على " ابتكار القيمة " وليس على "إضافة القيمة فقط" وهذه مصطلحات استعيرت من كتاب "استراتيجية المحيط الأزرق" لمؤلفيه "Mauborgne وKim" والذي يحثان فيه على التركيز على ابتكار منتجات قد تكون لها قدرة تحديد مستقبل السوق وليس الاكتفاء بمنتجات تضيف قيمة محددة في بيئة تنافسية حادة. أمر مهم آخر يمكن أن يدفع الإبداع التكنولوجي في هذه المشاريع قدما إلا وهو الدعم الفني الذي تقدمه جهات تتخصص أساسا في دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة فالدعم المالي والقروض ليست كافية فهناك الاستشارات الفنية والقانونية المقدمة من قبل جهات حكومية ووزارات وجامعات حكومية تزخر بكثير من الكفاءات التي تعلمت في أرقى الجامعات يمكنها تقديم مثل هذا الدعم والإسناد والتوجيه والإرشاد عند الحاجة. وأخيرا يمكن الاستفادة من الفورة الاستثمارية في البورصة والاندفاع للتعامل بالأسهم والتغطية الهائلة للاكتتاب بأسهم الشركات حيث يمكن توجيه هذا الاندفاع باتجاه شركات يمكن أن تقدم الكثير من المنتجات واستقطاب مزيد من الكفاءات المبدعة وتمويل مشاريع بحثية طموحة بالرغم من صغر حجمها والأهم من هذا التثقيف باتجاه الاستثمار في شركات صناعية تقدم منتجات قد تغير من وجه السوق مستقبلا فالاستثمار بالبحث العلمي ومشاريع الإبداع التكنولوجي هو استثمار اليوم بانتظار المردود المستقبلي الذي قد يأتي بعد سنوات طويلة ولكنه سيكون مردودا مجزيا ولنا عبرة في كثير من الدول والشركات التي خاضت التجربة. خلاصة القول إن عوامل كثيرة كما ورد في أعلاه تؤثر في بيئة المشاريع الصغيرة لكي تجعلها مصدرا مهما للإبداع وأن المشاريع الصغيرة في المملكة لا تقل كفاءة عن مثيلاتها في دول أخرى، لذا ومع الانتباه للقدرات والاستفادة من الإمكانيات الضخمة سواء كانت بنية تحتية علمية أو اقتصادية متاحة أو دعما وتشجيعا من خلال القوانين والتشريعات فإن الإمكانية لتنمية الإبداع التكنولوجي ستتوافر في هذه المشاريع.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي