تأجيل الاكتتابات العامة وتغليب الوسيلة على الهدف

تأجيل الاكتتابات العامة وتغليب الوسيلة على الهدف

<a href="[email protected]">[email protected]</a> ارتفعت دعوات ومطالب لتأجيل طرح شركات جديدة للاكتتاب العام كوصفة لعلاج الانهيار الذي حل بأسواق المال في عدد من دول مجلس التعاون الخليجي، ومن بينها المملكة، خلال الفترة القريبة الماضية. فما مدى سلامة هذه الدعوات؟ في منتصف القرن السادس عشر الميلادي حيث ثورة الاكتشافات الجغرافية شهد العالم أول عملية طرح لأسهم في اكتتاب عام. كان ذلك عندما فشل المغامر الإنجليزي (ريتشارد ويلوبي) في إقناع البلاط البريطاني بتمويل رحلته لاكتشاف ممر للشرق عبر الشمال، فعمد إلى ابتكار مشروع (شركة) باسم (شركة موسكوف) واستطاع تمويله بالحصول على مبالغ من عدد من تجار لندن مقابل تحرير إيصالات وتسليمها لهم بأمل اقتسام غنائم الرحلة معهم بحسب نسبة مساهمتهم فيها. وخلال تلك الرحلة كانت هذه الإيصالات (الأسهم) تُتداول بين التجار في لندن بأسعار تتذبذب حسب الأخبار والإشاعات القادمة من الأفق البعيد. وقد عادت الرحلة مُحملة بالذهب والغنائم، ومُحققة للمستثمرين أرباحاً مجزية، ومُعلنة ميلاد شركة المساهمة كمصدر جديد للتمويل كُتب له أن يسهم في تغيير مجرى التاريخ الإنساني، وإن كان علماء المسلمين قد عرفوه منذ فجر الحضارة الإسلامية وأسموه ( شركة المرابحة ) إلا أنهم لم يتمكنوا من تطويره بما يُمكن المستثمر من تسييل استثماراته قبل تصفية الشركة، وهو الأمر الذي تداركه المغامر الإنجليزي (ويلوبي)، فأصبح التمويل بالمرابحة القابلة للتداول، أو ما أصبح يعرف بالسوق الأولية (Primary market ) فتحاً اقتصادياً عزز الفتوح الجغرافية الأوروبية بتأسيس الشركات الأسطورية لما وراء البحار مثل شركة الهند الشرقية، والشركة الروسية، والشركة الهولندية، وغيرها. وبلغ مجموع الاستثمارات في شركات المساهمة في بريطانيا عام (1695 م) نحو أربعة ملايين جنيه استرليني، ثم تضاعف في عام (1703 م ) إلى ثمانية ملايين جنيه مقارنة بحجم الثروة القومية ـ عدا الزراعة ـ في بريطانيا عندئذٍ الذي كان يٌقدر بثلاثين مليون جنية. وبعد قيام الدولة الأمريكية نجح الأمريكيون ـ كعادتهم ـ في إعادة ابتكار هذا المُنتج وتحويله إلى آلية فاعلة لحشد التمويل من أجل بناء خطوط السكك الحديدية العملاقة من الشرق إلى الغرب مما مكن المهاجرين الأوائل من ترويض القارة المتوحشة وإجراء يد المدنية عليها، ثم استخدموه في تمويل المصانع العملاقة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مروراً بتمويل مشاريع الازدهار الحضاري من بنية أساسية ومرافق وبحوث علمية وتقنية وفضائية وطبية، وانتهاءً بتمويل مشاريع الثورة الصناعية الثانية (الحاسب الآلي والإنترنت والاتصالات) خلال العشرين سنة الماضية. وفي السابق كانت أسهم الشركات تُتداول بطريقة بدائية في نيويورك وشيكاغو (السوق الثانوية Secondary market)، ثم أُنشئت أسواق (بورصات) خاصة بذلك. وفي أثناء الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي واجهت الإصدارات الأولية أزمة ثقة كادت تعطل هذا المصدر التمويلي الحيوي فبادرت الحكومة الاتحادية إلى إنشاء هيئة الأوراق المالية الأمريكية (S.E.C) ليس بغرض خدمة المساهمين كما يتبادر إلى الذهن، ولكن لدعم السوق الأولية خدمة لمُصدري الأسهم الباحثين عن التمويل وخدمة لهذا المصدر التمويلي على أساس أن الهدف من إيجاد السوق الثانوية تشجيع الاستثمار في السوق الأولية (الاكتتابات) كقناة لتمويل مشاريع عمارة الأرض في الزراعة أو الصناعة أو التجارة أو الخدمات. وبعد خروج الاقتصاد الأمريكي من الكساد وعودة الثقة إلى السوق المالية تطور ما عُرف بالسوق المالية المنظمة بجناحيها الأولي والثانوي كصناعة مستقلة للخدمات، محفوفة بشبكة كثيفة من الوسطاء والدلالين والمحاسبين والمحللين الماليين والمستشارين الماليين والقانونيين، وأصبحت السوق الثانوية مصدراً رئيساً للناتج القومي وللتوظيف. وعلى الرغم من ذلك بقيت السوق الأولية في بؤرة اهتمام هيئة الأوراق المالية الأمريكية تشريعاً وتنفيذاً باعتبارها الهدف من هذا النشاط، وأتت السوق الثانوية والأنشطة الداعمة لها في المرتبة الثانية باعتبارها وسيلة لخدمة السوق الأولية. هذا الترتيب في الأولويات لا يبدو أنه السائد في محيطنا الجغرافي حيث تُعامل السوق الثانوية على أنها الهدف وليست الوسيلة بالرغم من أن مجرد تداول الأسهم لا يصنع ثروة جديدة ( كيلا يكون دولة بين الأغنياء منكم ). أما الأنشطة الجانبية التي تنمو على هامش السوق المالية كالوساطة المالية والاستشارات والمحاسبة والتحليل المالي فإنها تظل عبئاً على أرباح الشركات ما لم تُسهم في تحسين كفاءتها الإنتاجية وكفاءة الاقتصاد على وجه العموم بتوجيه الأموال نحو المشاريع الأكثر جدوى، وذلك لأن تكاليف هذه الأنشطة إما أن تُدفع من قبل الشركات وتُحمل بالتالي على المصاريف، أو تُدفع من قبل المستثمرين، فتُحمل على تكاليف الاستثمار في السوق المالية مقارنة بالبدائل الأخرى كالعقار أو سندات الخزينة أو الودائع. مما سبق يتضح أن فلسفة السوق المالية وسبب نشوئها هو إيجاد قناة لتوجيه المدخرات نحو تمويل الأنشطة الاقتصادية، وبالتالي فإن المطالبة بتأجيل الاكتتابات كوصفة علاجية مُقترحة لدعم السوق الثانوية إنما تُغفل هذا الجانب الحيوي وتنطلق من النظر إلى السوق الثانوية على أنها هدف بحد ذاته، بدلاً من إدراك أنها وسيلة لتحقيق هدف آخر هو دعم السوق الأولية ( الاكتتابات ) وتنطوي على وصف الداء كدواء. فهذه المطالبة تشبه الدعوة إلى منع الإيداعات الجديدة في البنوك لكيلا ينخفض سعر الفائدة وبالتالي يتضرر المودعون الحاليون، كما تُغفل أهم أسباب مشاكل الأسواق المالية في المنطقة وهو انخفاض كمية الأسهم القابلة للتداول نسبة إلى كثافة السيولة المتاحة. وغني عن البيان أن الاكتتابات العامة التي تطرح بأسعار تشجيعية تعزز الثقة بالسوق المالية وتجلب أموالاً إضافية إليه وتُسهم في زيادة القيمة الحقيقية المضافة للاقتصاد الوطني. وبالله التوفيق .
إنشرها

أضف تعليق