كِــدْ ومِــدْ

الإعلان عن انطلاق الترخيص لإنشاء "مدينة الملك عبد الله الاقتصادية" على مساحة 55 مليون متر مربع على البحر المفتوح, بالقرب من مدينة رابغ الصناعية, وعلى مقربة من جدة, ومكة المكرمة والمدينة المنورة, تضمَّن تفصيلات معلوماتية عمَّا يضمه المجمع من مناطق رئيسية هي ميناء بحري ومناطق صناعية ومنتجعات شاطئية وجزيرة مائية و 3 أحياء سكنية ومدينة تعليمية بتكلفة تصل إلى 100 مليار ريال, وتوفيراً للجدِّية في العمل ومصداقية الالتزام, فإنَّ أعمال الإنشاء والتشييد المتكاملة بدأت اعتباراً من الأربعاء 21/12/2005, يصاحبها تقيُّد بجدول عمل يعكس التخطيطات والتطلعات وتتطابق النتائج مع الوعود المعلنة في "انتقال أول مجموعة من الشركات والسكان إلى المدينة في غضون 24/26 شهراً من الانطلاقة الطموحة والبداية المباركة "في إطار توجهات الهيئة وخطتها الاستراتيجية حيال تنمية جميع مناطق المملكة من خلال إقامة مدن اقتصادية متكاملة".
واستمر معالي عمر الدباغ في شرح رؤيته دفاعاً لمستقبل وضعه في إطار الواقع المرتقب وإيضاحه "أنَّ الهيئة ستركز في السنوات العديدة المقبلة على خمسة محاور, أولها الذي تمَّ تدشينه اليوم جنوبي رابغ, وهنالك أربعة محاور أخرى شمال غربي السعودية, جنوب غربي, شرقي ووسط السعودية وهي مناطق اقتصادية متخصصة متكاملة". تقام هذه المشاريع بطريق الإدارة من قبل شركة خليجية وإشراف فني أمريكي وتنفيذ مساهمة سعودية بطرح 30 في المائة من رأس مالها في الاكتتاب العام, غير أنَّ العضو المنتدب لشركة إعمار السعودية أعلن "أنَّ أعضاء التحالف السعودي الإماراتي في مشروع مدينة الملك عبد الله الاقتصادية لم يقروا بعد موعد طرح الاكتتاب العام للنسبة المحددة التي تبلغ 30 في المائة".
التكامل الذي عليه المشروع طريف في توقيته المفاجئ ومدعاة للفرحة والسرور لمبادرته الطموحة والإيضاح للجوانب الخدمية المتوافرة, سواء للمشاريع الصناعية المرتقبة أو الخدمات المقترحة للمقيمين من العمال والموظفين والمديرين. كما أنَّ "وصفات" الأهداف المقدرة لمناطق الشغل والتشغيل مذكورة وفقاً للفكر الغربي المزروع في مسيراتنا دون محاولة برقعتها وأقلمتها لتوفير اطمئنان تكامل مجتمعي, وللتسميات المعروفة التداول والصفات المألوفة عند "السميعة" وتأثيراتها المتضاربة من إيجابية وسلبية تظهرُ أثرها على السطح المخملي لتقسمهم بين مُصدِّق ومتحيِّر أمام مسميات وتوصيفات من منظورهم مُفرِّغة من التأثير الحسي وحقيقة مضامين المعاني, مثل "ميناء بحري عالمي, يحتل مساحة إجمالية تبلغ 2.6 مليون متر مربع تجعله يضاهي أكبر موانئ العالم مثل ميناء روتردام, علماً أنه سيكون قادراً على استقبال أضخم السفن. وسيكون الميناء الجديد بفضل موقعه الاستراتيجي, وإمكانياته الضخمة همزة وصل رئيسية ما بين آسيا وإفريقيا وأوروبا, كما يوفر لحركة الشحن ما بين القارات الثلاث تجهيزات هي الأحدث من نوعها بما فيها التحميل والتفريغ الآلي بالكامل ومتابعة حركة السفن عبر الأقمار الصناعية وهذا ما سيحصل من "ميناء الألفية الجديدة" واحدة من المحطات لحركة الشحن الدولية وبوابة رئيسية للمنطقتين الشرقية والوسطى وبقية مناطق المملكة".
ميناءا جدة وينبع في آسيا القارة وليس المريخ, وعلى طريق القارات الثلاث, في أقرب موقع لمرور البواخر التجارية بما لا يتوافر لسنغافورة ودبي وصلالة, ويدخلان ضمن موانئ مناطق تجارة وصناعة المملكة بنسب مرتفعة للميزات التزاحمية التجارية على الرغم من النواقص الاستثمارية وتخلُّف التسلسل الإداري وتوافر التميز البيروقراطي, ولكل منهما دور فاعل في ربط الجزيرة العربية على الرغم من محدودية الإمكانات التي تعوضها علاقة كل منهما بواقع حياة البلاد اقتصادياً وتشغيلياً ليُصبحا موفرين فائدة اقتصادية للوطن, أهم من العلاقة مع ميناء روتردام, ويفرض حكمة ومنطقية عدم إغفال حماية المستقبل الاقتصادي الواعد بالداخل والخارج لكل من الميناءين, والحرص على دعم ازدهار وانتعاش حركة كل منهما التجارية والصناعية ضمن المنظومة المشرِّفة التي قرأناها وسمعناها من معالي رئيس الهيئة. وتوفير إيضاح شامل ومتكامل للبرامج المقترحة لضمان توفير النفع المتبادل بين "المجمَّع الاقتصادي" والمدن الأربع الرئيسية المحيطة بها والقرى المنتشرة. قيام مجمَّع عملاق يفرح لقيامه الوطن والمواطن, لكن إغفال علاقته الاقتصادية والاجتماعية بالكيانات القائمة مدعاة للانزعاج والحسرة والألم. ناهيك عن التعهد بتوظيف نصف مليون مواطن دون توضيح برامج التدريب, وفي ضوء التحديات التي نعيشها يفرض علينا جميعاً حتمية معرفة ما يقدمه المجمَّع للشباب ومحدودي الدخل قبل المستفيدين من استثمار مائة مليار ريال.
ميناء جدة بقيام المشروع العملاق أو دون الإشارة أو التطرُّق إليه, خدمته البحرية للبضائع والركاب لا تتناسب مع الدور التجاري المفروض أنْ يقوم به. استمرار الوضع الذي عليه أحوال ميناء جدة من منظور الاستثمارات الرأسمالية بالأرصفة والمعدات, والصيانة والعناية متخلِّفة لدرجة تتجه إلى شل حركته وقتل الفائدة الاقتصادية المناطة به, سواء للبضائع أو الحجاج أو الركاب. هذا الحال قائم لمن يريد تحريه على الرغم من أنَّ أعمال الميناء البحرية في السنوات القليلة الماضية حققت تجاريا تحسناً كبيراً عن سابق العهد, ويدعم هذا التقدم في الأداء الزيادة في مناولة الحاويات وتبوؤ ميناء جدة مركزاً متقدماً بين موانئ العالم. التحسن في الأداء البحري للميناء يعكسه زيادة مناولة الحاويات سنوياً. نظراً لعدم توافر زيادة لقدرة الطاقة التشغيلية, يتوقع أنْ تقف زيادة القدرة الاستيعابية لاستقبال الحاويات في الأشهر القليلة القادمة في الميناء لمواجهة زيادة أحمال الحاويات عن الإمكانات التشغيلية المتوافرة من المعدات والأرصفة التي وفقاً لتخميني "البداوي" في حدود 20 في المائة من تجارة الحاويات المفروض أنْ يستقبلها الميناء, نظراً لأنَّ تركيبة واردات المملكة البحرية لميناء جدة في الظروف الحالية من الحاويات قرابة 80 في المائة من التجارة الواردة وبقية الواردات من البضائع التقليدية الشحن. التباين بين الحاجة لاستقبال الحاويات والمتوافر واضح. السعة المتوافرة في ميناء جدة للحاويات 20 في المائة, بينما البضائع الواردة في حاويات تمثِّل 80 في المائة من الواردات. الفرق في خدمية تجارة الحاويات يتجه إلى موانئ الغير بكل ما يعنيه هذا الفكر من أضرار على التوجه الاقتصادي الحر وتأثيره على تنشيط أعمال المدينة وزيادة المزاحمة وتقليل التكاليف. حماية صناعة النقل التجاري البحري ورعاية تنميته طبيعياً وضمن المخطط العام للتنمية وصيانة للشباب من الضياع ووظائف لمحدودي الدخل من النساء والرجال وتأمين موقف مزاحم لميناء جدة, ليصبح ميناء محوريا للحاويات يتطلَّب سرعة توسيع وتحديث ميناء جدة, ليستقبل الجيل الجديد من بواخر الحاويات حجم ثمانية آلاف حاوية, المقر البحري التجاري لجدة, ما زال الأكثر مزاحمة بين موانئ الشرق الأوسط بتوفير "لزوم الشيء" التنموي. المطابقة بين القائم والمستحدث يوفر شمولية فائدة الوطن والابتعاد عن هذا الفكر يضع الاقتصاد الوطني بين "حانة ومانة".
القرار السياسي يسمو في كثير من الظروف والأحوال على الفكر الاقتصادي الصائب, ومهم توفير تفصيلات كاملة في العرض ووضوح الرؤية لضمان الربط بين القديم والجديد والتأكد أنَّ العمل الاقتصادي الجديد لا يحصر جهده وجهوده لما يؤسس داخل "المدينة" فقط. كما لا يكفي الإشارة لمعالم المملكة, بل ضروري الالتزام بمبدأ أنَّ التجارة الناجحة تسير في اتجاهين ضمن إطار المنظومة الخماسية الطموحة بما يتضمَّن توفير تكامل المصالح وتقليل الأضرار وتوضيح الهدف الاقتصادي السامي الاجتماعي الذي حوله تدور النشاطات الاجتماعية لتوفير العمالة الوطنية المدرَّبة, والاقتراب من الآية الكريمة في أنه جعلنا طبقات متقاربة لا متباعدة في اغتنام فرص العمل والثراء والتقارب في تضييق فجوات اختلاف وتخلُّف مستويات العيش وإعمار الأرض والمصالح والشغل للعامة والخاصة.
"المُجمَّع" فكرته جيدة وطريقه سليم, لكن لا بد من أنْ ترتبط معه النشاطات القائمة القديمة والحديثة وخاصة المتماثلة مع نشاطات تشييداته, دون إغفال "توفير لزوم الشيء" بالتمام وعلى "التيم" في المفهوم الحديث للواقع الاجتماعي لمساندة دور المناطق الصناعية المقترحة والمدارس والجامعات والحواري والنوادي..الخ, الاهتمام بما يطمئن أصحاب الاستثمارات في المنشآت القائمة لتساوي الجميع في النظم والقوانين التي تحكم الأعمال القائمة والمستحدثة. إذا هنالك رغبة لزيادة الإيضاح, فعلينا ألا نغفل التجربة المصرية في الدوامة التي نتجت من تعددية تنظيمات مجتمعاتهم الاقتصادية. "المجتمع" العملاق لا يقام من فراغ, بل مرتكزاته علمية معرفية وفقاً للتجربة العملية التي تُغذي فكرته من الخليج أكثر من ملاءمته مع تطلعات المستقبل, لتأثره بتجارب تلك الجهات المشاركة ودور شركة بارسون التي نعرفها من نتائج أدائها في ينبع الصناعية وأفكار من تزامنوا معها. إغفال التاريخ في التنمية كلفته مرتفعة!
"المدن الصناعية" التي اتخذ منها المشروع فكرته, يُشهد لها بالتفوق والتقدم, غير أنَّ كلا منها لها ظروفها الاقتصادية الخاصة وأوضاعها الاجتماعية التي تخدمها. إنَّ تفصيلات المشروع المقترح قيامه تغطي نطاقاً واسعاً للطموحات, وتشغل فكر الرأي العام لزيادة تطلعاته ورغباته, وإبرازها وإيضاحها يوسع دائرة المشاركة الفكرية والنقاش وتحوِّل المليارات المرصودة والأحجار المرصوصة في قلوب الخاصة والعامة إلى مشاعر حقيقية للتنمية الاجتماعية الاقتصادية.
مهما كان المشروع عملاقا وتوقعاته حسنة وتربيتاته حديثة والأسس علمية ومعرفية, فإنَّ إبراز المعلومات والأرقام والإحصائيات الداعمة للأفكار والمعرفة توفر التفصيلات الموضحة لبرامج تحقيق الوعود. أهمية الاهتمام والعناية بربط هذه النشاطات الخمسة بواقع حياة البلاد وباقي الخليج من بداية المشوار هو الأسلوب العلمي الصحيح ليسهل النهوض بالمؤسسات القائمة والتي نتطلع لتحسن أدائها وتقدم عملها. تأخر المؤسسات القائمة الخاصة والأهلية والحكومية ليست من عيب للأشخاص بقدر ما هو نقص في معرفة الطرق والأساليب لتوفير المقومات المصاحبة مثلما هو عليه "المجمع", كما أنَّ جدواها الاقتصادية يمكن تقييمها وتحديدها من واقع نتائج أعمالها قبل الجديد. المؤسسات القائمة أقرب لقلوب وحياة المواطنين وما نقيمه على أسس غربية وغريبة دون تحويرها وتدويرها مجتمعياً, قد تصبح قمما عالية بعيدة الاستفادة عن قواعدها التحتية. تعيين مواطنين مهنيين لا نراه في الأحلام ويتطلب نهجا مهنيا تدريبيا حديثا. وتأكيداً لهذا الفكر, يوجد في المملكة ما لا يقل عن 750 مصنع منتجات بلاستيكية توظف مائة ألف عامل, عدد العمالة الوطنية لا يتجاوز 5 في المائة قلب المعادلة رأساً على عقب لصالح توطين الوظائف، طريقة تدريب تقني مهني ملتزم.
التجارب الناجحة متوافرة ومؤسسة التعليم الفني والتدريب المهني عليمة بذلك.
إنَّ واقع المناطق الصناعية في الخليج جيد, ولا يختلف عليه اثنان, ويمثل قيام صروح في صحراء, خلافاً للواقع الذي نعيشه بعد نصف قرن وفرص حضارية وقيام نهضة عطاؤها محدود لمحدودية الخبرات والإمكانات و كثرة الاعتراضات, الجديد أمامنا فكراً والبعيد واقعاً, وبدون ربط مجتمعية الاقتصاد وتساوي العطاء والنظم لا تصلح مسيرة التنمية الاجتماعية الاقتصادية المستدامة, بل سيقلل من مقاومتها وبقائها تشتت الفكر الاقتصادي الذي نحن عليه. فوائد كثيرة يمكن أنْ تتحقق من برنامج الفئات الخمس من بداية المشوار وربطه مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي نعيشه ونحياه. حقيقة التطلعات تكمن في أنْ تتوفر لنا القدرة لمعرفة هوية الاقتصاد السعودي, حتى يسهل علينا التخلص من اقتصاد الاجتهادات العشوائية, وخلط مسؤولية الأمانة العامة بالمصلحة الخاصة, ولنفهم مبدأ الفائدة المزاحمة, ولا ننسى الهدف الأساسي في إعمار الأرض وتوفير الشغل المنتج للإطعام الذهني والمعدي.
"الوعود الفرضية" في أمور حساسة مثل استيعاب العمالة الوطنية بأرقام فلكية والتعليم بمساحات واسعة دون إفصاح لمدى احتواء الجهات الرسمية, بدلاً من افتراضنا تحقيق المعجزات دون الإشارة لأساسيات التدريب المهني والنشاطات المقترحة للعمل دون توفر الخبرة, فيه كثير من الحيرة لمعرفة عمَّا إذا كان "المجمَّع" وتوابعه المرتقبة يسمو بتنظيماته المقترحة عما هو متوافر في النشاطات الاقتصادية, أو أنَّ برنامج عمل "المجمَّع ليس تسليم المفتاح", بل يضمن التشغيل وفقاً لنظم تُطبَّق عبر الجزيرة وفقاً للعادات والتقاليد, وليست له وصفة "سحرية سرية". الاحتمال الأول مرفوض لإضراره باقتصاد البلاد والعباد والثاني مقبول, بعد مزيد من الإيضاح. والله أعلم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي