حلقات في مكارم الأخلاق (10)
في الحلقة السابقة أشرنا إلى أهمية (الصدق) وهي المكرمة رقم 7 في كوكبة مكارم الأخلاق الـ 77 المعروفة لديكم، والصدق بحق من أنبل الأخلاق وأسماها وهو أنس المجالس، ومن أخلاق الأنبياء ومن أهم أسس التربية بل ومن أسباب النجاح في العلم والعمل والتجارة، والصدق من علامات الإيمان والفطرة الطيبة التي تعشق الحق وتنبذ الباطل وتشمئز من الكذب، كيف لا والقول الصدق ينقل إليك الحقيقة والواقع كما هما بما فيهما من حلاوة ومرارة دون تضليل أو حذف أو إخفاء لأن الانحراف عن قول الحق يبطن سببا أو أسبابا كريهة مثل الحسد أو الكبر أو الخوف أو الكراهية أو الطمع أو الأنانية وما شابه ذلك من مساوئ الأخلاق، لذلك كان الذي يخفي الحقيقة ويقول غير الحق هو الكاذب .. وما أبشع هذه من صفة! وقد جاء في كتاب "الفوائد" لابن القيم في فصل عن حكم ابن مسعود رضي الله عنه، ونورد هنا ما يتعلق ـ بالصدق (والذي كان تاج حكمة) فقال ابن مسعود: إن أصدق الحديث كتاب الله وأوثق العرى كلمة التقوى، وخير الملل ملة إبراهيم عليه السلام وأحسن السنن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وخير الهدي هدي الأنبياء وأشرف الحديث ذكر الله وخير القصص القرآن، وخير الأمور عوازمها وشر الأمور محدثاتها، وما قل وكفى خير مما كثر وألهى. والآن أيها القراء الأعزاء نكمل ما سبق أن ذكرناه عن مكرمة (الصدق).
الصدق من أهم أسس التربية
لا يتم اكتمال بناء الشخصية السليمة إلا بالاهتمام بالتربية ثم يليها التعليم وبعدها التدريب وبعد ذلك وبعون الله تعالى يحصل النجاح إذا توج ما ذكرنا بالاستقامة. ومن أهم الأمور التي يجب على الوالدين والمربين الاهتمام بها خلق (الصدق)، وقد اهتم الإسلام كثيرا بغرس الصدق في نفس الطفل حتى يتربى ويترعرع على هذا الخلق القويم الحسن وحتى يصبح الصدق خلقا متأصلا في نفوس الأبناء وصفة وعادة يمارسونها في حياتهم، بينما إذا لم يحرص الوالدان على ذلك ولم يكونا دقيقين في التربية فتجدهما يعدان الصغار بشراء هدية من نوع معين بعد ظهور نتائج الاختبارات مباشرة ـ إذا تفوق الأبناء في المدرسة لكنهما مع الأسف لا يوفيان بالوعد فإما يتأخر موعد تقديم الهدية أو تكون أقل جودة أو لا يتم شراء الهدية. ومثل آخر فقد يقول الأب لابنه هيا ادخلوا السيارة في المرآب (الكراج) وإذا سأل عني أحد فقولوا إني غير موجود!! وأمثلة كثيرة على هذا النحو، ولا يدري الوالد أنه بهذه الأكاذيب يزرع في نفوس أبنائه (الكذب) خاصة إذا كان الوالد أو الوالدة لا يراعيان الصدق في الأقوال والأعمال والتصرفات مع الأسرة والجيران والأصدقاء فيتأثر الصغار بما يسمعون ويحسون، وسوف يتعلمون الكذب ـ إلا من رحم ربي ـ والأدهى والأمر إذا كانت المدرسة من خلال المعلمين ـ خاصة في المرحلة الابتدائية ـ لا يراعون الصدق ولا يتورعون عن الكذب على طلبتهم كأن يقولوا: كنا في اجتماع لدى مدير المدرسة إذا تأخروا عن موعد بدء الحصة مثلا، مع أن الأصل أن يكون المعلمون عوضا عن الوالدين في التعديل والتصويب للأقوال والأفعال والسلوك بدلا من أن يكونوا مصدرا للتشويش على الطالب باقتراف الكذب، وهكذا نجد أن التربية في الأسرة وفي المدرسة إذا لم يتعاونوا ويتبادلوا الأدوار لغرس فضيلة (الصدق) في نفوس الصغار فلا شك سيتأثر الطالب بالبيئة التي حواليه ويبدأ بعدم الحرص على (الصدق) ليتجنب أي عقاب أو إحراج يتعرض له ويمارس الكذب الذي يوصله إلى الغش في الاختبارات وربما التزوير ولا يحس في مثل هذه البيئة بأهمية الصدق وأن فيه النجاة وأنه يشجع على مكارم الأخلاق. وممارسة الكذب تبدأ في الاعتقاد أن الكذب نوع من الشطارة والتخلص من المواقف المحرجة ثم تسري آفة الكذب لزملائه ومن في الشارع، بينما لو كان العكس لانتشر الصدق وازدادت الثقة والمحبة والوصول إلى رضا، وإذا كان الصدق من أسس التربية الحسنة وبناء الشخصية فهو أيضا من أهم أسس طلب العلم ومن المتطلبات الأساسية لصالح الأعمال ومن أهم الأسس للتجارة، وتجد الصالحين وذوي الخبرة من رجال الأعمال يحرصون كل الحرص على الصدق مع عملائهم ومع موظفيهم ويشجعونهم على ذلك، لأن من يكذب سيغش في سعر البضاعة وجودتها ويؤدي الكذب إلى تفشي السرقة والتلاعب في الأوراق وفي أنظمة الحاسب الآلي، كما يحصل من سرقات خطيرة وصعب معرفة من قام بها وذلك في السرقات والتلاعب في المعلومات في البنوك وخاصة تلك التي لا تتمتع بالقيادة الإدارية الصالحة والتي لا يوجد لها نظام متابعة ومراقبة ومراجعة دقيقة ودورية وفجائية، ولا تركز على حسن انتقاء من يعملون لديها من الموظفين ولا تسعى لحسن تدريبهم وعدم التركيز على أخلاق المهنة ومن أهمها (الصدق) ولا تشجع الصادقين وتقربهم وتتخلص من الكاذبين بعد أن ينالوا ما يستحقون بعدل من الجزاء.
الصدق والمزاح
كما ورد في الحلقة رقم 7 عن مكرمة (البشر والبشاشة) وأن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يمازح أهله وأصحابه غير أنه لا يقول إلا حقا، فالإنسان يحتاج للترفيه عن نفسه وعن أهله وأصدقائه، حيث الإسلام يوصي بالدعابة والطرفة المسلية ويحارب السآمة والعبوس، لذا قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في سورة آل عمران الآية (159) "ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك"، لذا فالمزاح والمداعبة مطلوبة ولكن بشرط ألا يكون فيها كذب أو سخرية على أحد من المسلمين حيث إن التربية الإسلامية حريصة جدا على معنويات المسلمين وألا يلحقهم مكروه في الجد والهزل، وفي هذا الصدد قال صلى الله عليه وسلم "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم ويل له ويل له" وهذا الحديث الشريف عن بهز بن حكم أخرجه أبو داود، وهناك أحاديث كثيرة عن عدم ترويع المسلم بالسخرية منه أو أخذ شيء من متاعه ليضحك الآخرون عليه، نكتفي بذكر حديث شريف عن هذا الموضوع: عن عبد الله بن السائب عن أبيه عن جده قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يأخذ أحدكم متاع صاحبه لاعبا ولا جادا، فإن أخذ أحدكم عصا أخيه فليردها إليه".
الصدق والمدح
حرص الإسلام على توضيح كل الأمور صغيرها وكبيرها في الجد والهزل والحرب والسلام وفي السفر والحضر وفي جميع أوجه الحياة حتى تكون شخصية المسلم أقرب ما تكون للكمال وحتى يكون هناك مرجع يستند إليه في مكارم الأخلاق وجميع شؤون الحياة، وفيما يخص المدح فكان صلى الله عليه وسلم يقبل الثناء ولكن أن يكون من صادق وألا يبالغ في المديح، فكما ذكرنا في الحلقة الثانية عن وصف علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لكلامه عليه السلام حيث ورد أنه صلى الله عليه وسلم (لا يقبل الثناء إلا من مكافئ) وهو الرجل الصادق المعتدل في ثنائه ـ كما أشرنا أعلاه ـ والإسلام لا يمنع المدح وذكر الصفات الطيبة الذي رغب فيها الإسلام للممدوح لما في ذلك من تشجيع الممدوح على التمسك بتلك الصفات الحميدة وأن تعم الصفات وتشجع الآخرين من أصحاب السلطة والشأن ليقتدوا ويتمسكوا بها، خاصة أن الإنسان بطبعه يشعر بالرغبة في ذكر المناقب والصفات الطيبة للقادة والرؤساء والمحسنين ولكن يجب ألا يخرج المديح عن الحقيقة وألا يجر إلى الكذب والنفاق، خاصة إذا كان الممدوح من ذوي السلطان والجاه. ولا شك أن هناك من القادة وكبار المسؤولين من لا يرغب في الثناء الخارج عن الحدود ولكنه يضطر لمجاملة المادح على مضض ويخشى أن يحرجه إذا استوقفه عن المدح، ولكن من المناسب أن يقرأ المديح وأن يكون مكتوبا فإذا وجد فيه تجاوزا فلا يستمع إليه. لذا يجب على المسلم أن يزن كلامه وينتبه لما يقوله ويتحرى الصدق، ويجب أن يعلم أن الله تعالى سيحاسبه على كل ما يقول وما يضمر. ومن هدي محمد صلى الله عليه وسلم في المديح ما قاله عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: "ويلك قطعت عنق صاحبك، قطعت عنق صاحبك، قالها مرارا ثم قال: من كان منكم مادحا أخاه لا محالة فليقل أحسب فلانا والله حسيبه ولا أزكي على الله أحدا أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك" أخرجه البخاري.
ولم يسعنا المجال لإكمال ما تبقى من أنواع الصدق ـ لكننا بعون الله تعالى سنكمل ذلك في الحلقة الحادية عشرة ثم نتوقف وقفة قصير على أهم ما ورد في الحلقات السابقة وما نراعيه في الحلقات من موضوعية، فإلى اللقاء.
* الفريق متقاعد عبد العزيز محمد هنيدي
<p><a href="mailto:[email protected]">henaidy@msn.com</a></p>